الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا جمع بين جلد ورجم ) في المحصن ( ولا بين جلد ونفي ) أي تغريب في البكر ، وفسره في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من التغريب لأنه يعود على موضوعه بالنقض ( إلا سياسة وتعزيرا ) فيفوض للإمام وكذا في كل جناية نهر

التالي السابق


( قوله ولا جمع بين جلد ورجم ) للقطع بأنه لم يجمع بينهما صلى الله عليه وسلم ولأن الجلد يعرى عن المقصود مع الرجم فتح ( قوله أي تغريب في البكر ) أي في غير المحصن ، وقوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام } " منسوخ كشطره الآخر ، وقوله عليه الصلاة والسلام { والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة } " بحر .

وتمام تحقيقه في الفتح ( قوله وفسره ) أي فسر النفي المروي في حديث آخر كرواية البخاري من قول أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد } " ( قوله وهو أحسن إلخ " ) فيه أنه مخالف لروايات التغريب ، وقولهم إن في النفي فتح باب الفتنة لانفرادها عن العشيرة وعمن تستحي منه ، ولقول علي : حسبهما من الفتنة أن ينفيا .

وروى عبد الرزاق قال : غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر ، فقال عمر لا أغرب بعده مسلما كما في الفتح .

ولعل المراد أن فعل الحبس أحسن من فعل التغريب ، فليس المراد تفسير الوارد بذلك بقرينة التعليل فتأمل ( قوله ; لأنه يعود على موضوعه بالنقض ) أي ; لأن المقصود من إقامة الحد المنع عن الفساد . وفي التغريب فتح باب الفساد كما علمت ، ففيه نقض وإبطال للمقصود منه شرعا فكأنه شبه المقصود الأصلي بالموضوع وهو محل العرض المختص به أو بموضوع العلم ، وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كبدن الإنسان لعلم الطب تأمل .

مطلب في الكلام على السياسة ( قوله إلا سياسة وتعزيرا ) أي أنه ليس من الحد ، ويؤيده ما قدمناه من حديث البخاري من عطف وإقامة حد على نفي عام كما أوضحه في الفتح .

وفيه أيضا : لو غلب على ظن الإمام مصلحة في التغريب تعزيرا فله أن يفعله ، وهو محمل الواقع للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما غرب عمر نصر بن الحجاج لافتتان النساء بجماله والجمال لا يوجب نفيا .

وعلى هذا كثير من مشايخ السلوك المحققين رضي الله عنا بهم وحشرنا معهم يغربون [ ص: 15 ] المريد إذا بدا منه قوة نفس ولجاج لتنكسر نفسه وتلين ، مثل هذا المريد أو من هو قريب منه هو الذي ينبغي أن يقع عليه رأي القاضي في التغريب ، أما من لم يستح وله حال تشهد عليه بغلبة النفس فنفيه يوسع طرق الفساد ويسهلها عليه . ا هـ .

[ تنبيه ] أشار كلام الفتح إلى أن السياسة لا تختص بالزنا وهو ما عزاه الشارح إلى النهر . وفي القهستاني : السياسة لا تختص بالزنا بل تجوز في كل جناية ، والرأي فيها إلى الإمام على ما في الكافي ، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره كما في التمهيد ، وهي مصدر ساس الوالي الرعية : أمرهم ونهاهم كما في القاموس وغيره ، فالسياسة استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في الدنيا والآخرة ، فهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم ، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير ، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير كما في المفردات وغيرها ا هـ ومثله في الدر المنتقى .

قلت : وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية ، وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل ، كما قالوا في اللوطي والسارق والخناق إذا تكرر منهم ذلك حل قتلهم سياسة وكما مر في المبتدع ، ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد ، وقوله لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصها فإن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم ، ولذا قال في البحر : وظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي ا هـ .

وفي حاشية مسكين عن الحموي : السياسة شرع مغلظ ، وهي نوعان : سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها . وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم ، وتدفع كثيرا . من المظالم ، وتردع أهل الفساد ، وتوصل إلى المقاصد الشرعية فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها ، وهي باب واسع ، فمن أراد تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب معين الحكام للقاضي علاء الدين الأسود الطرابلسي الحنفي . ا هـ .

قلت : والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما ، بل اقتصر في الجوهرة على تسميته تعزيرا وسيأتي أن التعزير تأديب دون الحد من العزر بمعنى الرد والردع وأنه يكون بالضرب وغيره ، ولا يلزم أن يكون بمقابلة معصية ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلاة وكذلك السياسة كما مر في نفي عمر لنصر بن الحجاج ، فإنه ورد أنه قال لعمر : ما ذنبي يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا ذنب لك وإنما الذنب لي حيث لا أطهر دار الهجرة منك ، فقد نفاه لافتتان النساء به وإن لم يكن بصنعه ، فهو فعل لمصلحة وهي قطع الافتتان بسببه في دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع ، ففيه رد وردع عن منكر واجب الإزالة ، وقالوا إن التعزير موكول إلى رأي الإمام ، فقد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة وسيأتي بيانه ، وبه علم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضا ، والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي بل لكونه هو الأصل ، والقاضي : نائب عنه في تنفيذ الأحكام كما مر في قوله فيسألهم الإمام ، وبدأ الإمام برجمه ونحو ذلك ، وفي الدر المنتقى عن معين الحكام : للقضاة تعاطي كثير من هذه الأمور حتى إدامة الحبس والإغلاظ على أهل الشر بالقمع لهم ، والتحليف بالطلاق وغيره ، وتحليف الشهود إذا ارتاب منهم ذكره في التتارخانية ، وتحليف المتهم لاعتبار حاله أو المتهم بسرقة يضر به ويحبسه الوالي والقاضي . ا هـ . وسيأتي في باب التعزير أن للقاضي تعزير المتهم وصرح الزيلعي قبيل الجهاد أن من السياسة عقوبته إذا غلب على ظنه أنه سارق وأن المسروق عنده ، فقد أجازوا [ ص: 16 ] قتل النفس بغلبة الظن ، كما إذا دخل عليه رجل شاهرا سيفه وغلب على ظنه أنه يقتله وسيأتي تمام ذلك في كتاب السرقة




الخدمات العلمية