الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفرع الثالث

                                                                                                                في الكتاب : يعرف الغنم في أقرب القرى ولا يأكلها . وفي الفلوات يأكلها ولا يغرمها ، لقوله - صلى الله عليه وسلم : ( هي لك أو لأخيك أو للذئب ) والبقر بموضع الخوف عليها كذلك ، وبموضع الأمن كالإبل ، وقال ابن حنبل : الشاة في المضيعة كالذهب في الالتقاط والتعريف يخير ملتقطها بين أكلها في الحال ، أو يمسكها وينفق عليها لصاحبها ، أو يبيعها ويحفظ ثمنها له ، وقال ( ش ) و ( ح ) : متى أكلها ضمنها ، قال القاضي في الإشراف : وهو قول بعض المتقدمين منا .

                                                                                                                وأجابوا عن الحديث بوجوه : أحدها : أن معناه : أنك إن أخذتها ضمنت قيمتها على أخيك فانتفعت أنت وانتفع هو ، وإن لم تفعل أكلها الذئب ففاتت المنفعتان ، فتكون ( أو ) للتنويع ، فيكون الأخذ منوعا إلى ما يحصل مصلحتين وإلى ما يفوتهما ، فالحديث منفر عن الترك ، لا مسو بين الآخذ وبين الذئب .

                                                                                                                [ ص: 97 ] وثانيهما : أن الأصل في العطف التسوية . وقد عطف الأخ عليه بقوله : أو لأخيك ، فوجب أن يستويا في التعلق بهذه الشاة ، هذا بالانتفاع ، والأخ بالقيمة ، وعلى قولكم : لا تسوية ، بل يختص النفع بالآخذ . وثالثهما : أن الذئب لا يملك ، وقد عطف على الآخذ ، والأصل في العطف التسوية ، ولا يملك الآخذ ، وإذا لم يملك كان الملك لصاحبها عملا بالاستصحاب ، ورابعها : لو سلمنا دلالته على عدم الضمان لكان معارضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن جاء صاحبها فاغرمها له ) وبالقياس على ما إن وجدها في الحضر ، ولأنه أتلف مال الغير بغير إذنه فيضمنه كسائر الأموال .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن معنى الحديث : التسوية بينه وبين الذئب لا ما ذكرتموه ، عملا بالعطف بينه وبين الذئب ، وعلى ما ذكرتموه : لا تقع التسوية فيلزم خلاف القاعدة .

                                                                                                                عن الثاني : من وجهين أحدهما : أن صاحبها المعطوف لا يجب عليه شيء إذا أكل ، فكذلك الآخذ ، عملا بما ذكرتموه من التسوية ، وثانيهما : أن الأخ وإن عطف فكذلك الذئب عطف أيضا ، وهو لا يجب عليه شيء ، ولو أكل كذلك الآخذ عملا بالعطف المسوي .

                                                                                                                عن الثالث : لم يسقط الملك في حق صاحبها ، والحديث يقتضيه ، لأن تقديره : هي لك إن أخذتها أو لأخيك إن أخذها أو الذئب إن تركتماها . فملك صاحبها بشرط هو مفقود ، فينتفي ملكه لانتفاء شرطه .

                                                                                                                عن الرابع : منع الصحة .

                                                                                                                عن الخامس : الفرق بأنها في الحضر لم تبطل ماليتها للقدرة على صونها بالبيع ، ولا يجدها الذئب بخلاف الفلاة وهو الجواب عن الخامس ، ثم إن الحديث وجد فيه إتلافه ( كذا ) ما يفسد الملك لمن يقبل الملك وهو الواجد ، فيفيد أن له الملك لأنه أصل هذه الإضافة ، وكما لو قال : هذا المال للذئب ، فإن قالوا :

                                                                                                                [ ص: 98 ] الذئب لا يملك ، وقد وجد في حقه عين ما ذكرتموه ؟ قلنا : لا يلزم من مخالفة الدليل في غير صورة النزاع مخالفته فيها ؛ لأن الأصل : إعمال الدليل بحسب الإمكان . ولنا أيضا في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( هي لك ) والمبتدأ يجب انحصاره في الخبر ، فتخص الشاة للواجد دون المالك ، فلا يتعلق بها المالك بوجه ، وهو المطلوب .

                                                                                                                تفريع : قال في الكتاب : وضالة الإبل في الفلاة يتركها فإن أخذها عرفها ولا يأكلها ولا يبيعها ، وإن لم يجد صاحبها خلافا بالموضع الذي وجد فيه ، وإن رفعتها للإمام فلا يتبعها بل يفعل ما تقدم ، وكذلك فعل عمر - رضي الله عنه - وكان عثمان - رضي الله عنه - يبيعها ويفرق ثمنها لأربابها . والخيل والبغال والحمير يعرفها ، فإن لم يأت صاحبها تصدق بها . قال عبد الملك : الحق ولو جاء صاحب الشاة بعد ذبحها أخذها ما لم يأكلها لأنها غير ماله ، قال التونسي : إذا رد الإبل بعد أخذها لم يضمنها ، لأن الحديث اقتضى منع الأخذ ، فالرد فعل الواجب فلا يوجب ضمانا ، ولو أنفق عليها في موضع الأمن لم تكن له نفقة ، وإنما في المدونة ، إذا أسلم البعير ربه فأنفق عليه وأخذه فلا يأخذه إلا بالنفقة ، لأنه لو تركه هنالك لمات ، ولو كانت الإبل بموضع خوف من السباع لكانت مثل الغنم ، وجاز أكلها لذكره - صلى الله عليه وسلم - العلة التي من أجلها فرق ، ولم يحدد في تعريف الدواب شيئا ، وقيل : سنة ، والأول إن كان ينفق عليها عرفها سنة .

                                                                                                                قال صاحب المقدمات : ظاهر قول مالك في المدونة أن حكم الإبل عام في الأزمان ، وعنه أنه خاص بزمان العدل وصلاح الناس ، وأما زمان فساد الناس فتؤخذ وتعرف ، فإن لم تعرف بيعت ووقف ثمنها ، فإن لم يأت صاحبها تصدق به عنه كما فعله عثمان - رضي الله عنه - لما فسد الزمان ، وفي الجواهر : يلتقط الكلب بالمكان الذي يخاف عليه فيه ، لأنه معصوم ، وقاله ( ش ) ، قال ابن يونس : وإن وجد شاة اختلطت بغنمه ، قال سحنون : فهي كاللقطة يتصدق بها بعد السنة ، فإن جاء ربها ضمنها له ، وله شرب لبنها ، لأنه يرعاها ، قال مالك : فإن ذبحها قبل السنة ضمنها إلا أن يخاف موتها فيزكيها فلا شيء عليه له ، وعنه إن [ ص: 99 ] ذبحها بعد السنة وأكلها فلا غرم عليه ، قال أصبغ : فلو قدم بالشاة من الفلاة حية للأحياء وجب تعريفها ويضمنها لأهل قرية يعرفون بها ، ولا يأكلها الآن وهي لقطة حينئذ ، وقال غيره : من وجد طعاما في فيافي الأرض فحمله للعمران بيع ووقف ثمنه ، وإن أكله بعد قدومه ضمنه ، وعلى هذا القول يضمن اللحم إن أكله خلافا لأصبغ ، وعن مالك : إذا وجد الشاة بقرب العمران فعرفها فإن لم يأت ربها تصدق بثمنها أحب إلي ، وليس بواجب ، ونسلمها مثلها ، وأما اللبن والزبد فإن كان بموضع له ثمن بيع وصنع بثمنه ما يصنع بثمنها ، ويأكل من ذلك بقدر علوفتها . وبموضع لا ثمن له والصوف والسمن فتصدق بثمنه أو به . قال مالك : وإن تصدق بها أو بثمنها لم يضمن لربها شيئا ، وعن مالك : ضالة البقر كالغنم إذا وجدها بالفلاة أكلها ولا يضمنها ، وإن وجدها في قرب العمران عرفها ويكريها في علوفتها كراء مأمونا ، قال أشهب : وإذا كان الإمام غير عدل لا تدفع إليه الإبل ، وليخلها حيث وجدها ، وإن لم يكن للإبل منعة فهي كالغنم يأكلها إذا وجدها بالفلاة ، ولا يغرمها لربها ، وقوله في الخيل وما معها : يتصدق بها ، يريد بها أو ثمنها ، والواجد إذا أنفق على عبد أو دابة فهو أحق بما عنده من الغرماء حتى يقبض النفقة ، والنفقة له إلا أن يسلمها ربها في النفقة ، فإن أسلمها ثم بدا له : قال أشهب : ليس له أخذها ودفع النفقة لأنه أسقط حقه منها ، قال ابن كنانة : لا ينبغي أخذ الخيل والبغال والحمير ، ولا ينفق عليها ، لأن النفقة قد تستغرقها فتهلك على ربها ، وعن مطرف : له إن تركها من موضع وجدها إلى موضعه ، فأما في حوائجه فلا ، فإن فعل ضمن ، وإن أحب بيعها رفع ذلك إلى الإمام إن كان مأمونا إلا فيما خف من الشاة والشاتين فيليه ويشهره ، وقاله أصبغ ، قال اللخمي : لضالة الغنم خمسة أحوال . على بعد من العمارة وهي وحده ، أو معه الواحد أو اثنان ، ومن لا حاجة له بشرائها ، أو في جماعة يقدر على بيعها ، أو معه غنم ، أو بقرب عمارة ، أو في القرية نفسها ، فالأول لواجدها [ ص: 100 ] كما تقدم ، والقياس إذا نقلها حية لا شيء عليه . لأنه إنما نقلها بعد أن بقيت ملكه وإن كان في رقة باعها ووقف ثمنها . وإن أكلها ضمنها فإن تصدق بها ، عن مالك : لا شيء عليه ، وليست المواشي كغيرها ، وقيل : يضمنها ، قال : وهو الأحسن ، لأن الأصل بقاء الأموال لمالكها ، وإن كان معه غنم ضمها إليه سنة ، وإن ذبحها قبل السنة اختيارا ضمنها ، وإن خاف عليها لم يضمن إلا أن يقدر على بيع لحمها ، وإن وجدت قرب قرية ضمها إليه وعرفها ، فإن لم يفعل وأكلها ثم تبين أنها لأهل ذلك الموضع ضمنها ، واختلف إذا كانت لغير أهل تلك القرية ، فقال أشهب : لا شيء عليه ، وعن مالك : يضمنها أكلها أو تصدق بها ، ولم يفرق بين أن تكون لهم أو لغيرهم وهو أحسن لما تقدم ، وإن وجدها في قرية فلقطة كالأموال ، فكان في الحكم الأول ترك الإبل لأنه زمن النبوة والصحابة ، ثم كذلك في خلافة عمر لعدم الإخافة وصلاح الناس ، ولم يترك في زمان عثمان - رضي الله عنه - لعدله وفساد الناس ، ثم فسد السلطان والناس فتؤخذ ولا تدفع إليه ، قال : وهو حال الناس اليوم ، تعرف فإن لم يأت صاحبها بيعت إن يخشى السلطان إن عرفت لم تؤخذ وتركت ، وإن لم يخش إلا على الثمن أهملت حيث وجدت ، وإن كانت بموضع فيه السباع أخذت وعرفت ، لأنه لا مشقة في بلوغها بخلاف الشاة إلا أن يخاف السلطان في تعريفها فتترك ، فلعل صاحبها يدركها قبل السبع ، والبقر والخيل والدواب إن كانت في موضع رعي وما أمن من السباع امتنع أخذها ، ومتى انخرم أحد هذه الوجوه أخذت وليس لها صبر على الماء كالإبل ، أما من يتولى بيعها حيث بيعت ، فعن مالك : لا يبيعها إلا الإمام لأنه الناظر ، وعن ابن القاسم : إن باع بغير إذن الإمام ثم جاء صاحبها ولم تفت لم يكن إلا الثمن ، قال أشهب : لينقض البيع ، وإن لم يقدم عليها لم يكن له إلا الثمن إذا بيعت خوف الضيعة بخلاف الثياب ، ولا مؤنة له في بقائه ، فإن [ ص: 101 ] لصاحبه الأكثر من الثمن أو القيمة ، لأن الواجد فوته على صاحبه ، وقال مطرف : الدفع للإمام وينفذ بيعه ، لأن الشرع ولاه عليها ، فهي كالإمام ، قال : وينبغي ذلك وصحة البيع ويكون حكم الثمن ووقفه والانتفاع به والتصدق به حكم اللقطة ، وقالت الشافعية : لا تلتقط الإبل والبقر والحمير والبغال والخيل ولا ما في أذنه قرط - بالقاف ، وهو الذي يعلق من الحلي في الأذن - من الغزلان ، أو الحمام للتمليك ، وجوزه ( ح ) قياسا لغنم ، وفي أخذها للحفظ قولان ، وجوز ( ح ) التقاط الإبل والبقر والشاة ، وقال ابن حنبل : لا يلتقط ما يمتنع بنفسه عن صعد ( كذا ) السباع ، ويرد الماء بقوته كالإبل والبقر ، أو بطيرانه كالطير ، أو سرعته كالظباء والكلاب والفهود ، وقال ( ش ) وابن حنبل : البقر والإبل والبغال والحمير سواء لعظم أجسامها ، ومتى أخذها ملتقط ضمنها ، قاله ابن حنبل : وللإمام حفظها على أربابها اتفاقا ، لأنه الناظر في أموال الغائبين إجماعا .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية