الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            النوع الخامس : أن يسقيه سما ، أو يطعمه شيئا قاتلا ، فيموت به ، فهو عمد موجب للقود ، إذا كان مثله يقتل غالبا . وإن خلطه بطعام ، وقدمه إليه ، فأكله أو أهداه إليه ، أو خلطه بطعام رجل ، ولم يعلم ذلك فأكله ، فعليه القود ; لأنه يقتل غالبا . وقال الشافعي ، في أحد قوليه : لا قود عليه ; لأنه أكله مختارا ، فأشبه ما لو قدم إليه سكينا ، فطعن بها نفسه ، ولأن أنس بن مالك روى { ، أن يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة ، فأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم } قال : وهل تجب الدية ؟ فيه قولان ولنا ، خبر اليهودية ، فإن أبا سلمة قال فيه : فمات بشر بن البراء ، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت . أخرجه أبو داود ، ولأن هذا يقتل غالبا ، ويتخذ طريقا إلى القتل كثيرا ، فأوجب القصاص ، كما لو أكرهه على شربه . فأما حديث أنس ، فلم يذكر فيه أن أحدا مات منه . ولا يجب القصاص إلا أن يقتل به ، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر بن البراء فلما مات ، أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألها ، فاعترفت فقتلها ، فنقل أنس صدر القصة دون آخرها . ويتعين حمله عليه ، جمعا بين الخبرين . ويجوز أن يترك قتلها ; لكونها ما قصدت بشر بن البراء ، إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه وسلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر ، وفارق تقديم السكين ; لأنها لا تقدم إلى الإنسان ليقتل بها نفسه ، إنما تقدم إليه لينتفع بها ، وهو عالم بمضرتها ونفعها ، فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به .

                                                                                                                                            فأما إن خلط السم بطعام نفسه وتركه في منزله ، فدخل إنسان فأكله ، فليس عليه ضمان بقصاص ولا دية ; لأنه لم يقتله ، وإنما الداخل قتل نفسه ، فأشبه ما لو حفر في داره بئرا ، فدخل رجل ، فوقع فيها ، وسواء قصد بذلك قتل الآكل ، مثل أن يعلم أن ظالما يريد هجوم داره ، فترك السم في الطعام ليقتله ، فهو كما لو حفر بئرا في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ، ولو دخل رجل بإذنه ، فأكل الطعام المسموم بغير إذنه ، لم يضمنه لذلك . وإن خلطه بطعام رجل ، أو قدم إليه طعاما مسموما ، وأخبره بسمه فأكله ، لم يضمنه ; لأنه أكله عالما بحاله ، فأشبه ما لو قدم إليه سكينا ، فوجأ بها نفسه . وإن سقى إنسانا سما ، أو خلطه بطعامه ، فأكله ولم يعلم به ، وكان مما لا يقتل مثله غالبا ، فهو شبه عمد . فإن اختلف فيه هل يقتل مثله غالبا أو لا ؟ وثم بينة تشهد ، عمل بها . وإن قالت البينة : هو يقتل النضو الضعيف دون القوي . أو غير هذا ، عمل على حسب ذلك .

                                                                                                                                            وإن لم يكن مع أحدهما بينة ، فالقول قول الساقي ; لأن الأصل عدم وجوب القصاص ، فلا يثبت بالشك ، ولأنه أعلم بصفة ما سقى . وإن ثبت أنه قاتل ، فقال : لم أعلم أنه قاتل . ففيه وجهان : أحدهما : عليه القود ; لأن السم من جنس ما يقتل غالبا ، فأشبه ما لو جرحه ، وقال : لم أعلم أنه يموت منه . والثاني : لا قود عليه ; لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل . وهذه شبهة يسقط بها القود .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية