الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6350 ) فصل : في أحكام المفقود .

                                                                                                                                            إذا غاب الرجل عن امرأته ، لم يخل من حالين : أحدهما ، أن تكون غيبة غير منقطعة ، يعرف خبره ، ويأتي كتابه ، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم أجمعين ، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله ، فلها أن تطلب فسخ النكاح ، فيفسخ نكاحه . وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته . وهذا قول النخعي ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، ومكحول ، والشافعي ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وإن أبق العبد ، فزوجته على الزوجية ، حتى تعلم موته أو ردته . وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق

                                                                                                                                            وقال الحسن : إباقه طلاقه . ولنا أنه ليس بمفقود ، فلم ينفسخ نكاحه ، كالحر ، ومن تعذر الإنفاق من ماله على زوجته ، فحكمها في الفسخ حكم ما ذكرنا ، إلا أن العبد نفقة زوجته على سيده ، أو في كسبه ، فيعتبر تعذر الإنفاق من محل الوجوب . [ ص: 106 ] الحال الثاني ، أن يفقد ، وينقطع خبره ، ولا يعلم له موضع ، فهذا ينقسم قسمين : أحدهما ، أن يكون ظاهر غيبته السلامة ، كسفر التجارة في غير مهلكة ، وإباق العبد ، وطلب العلم والسياحة ، فلا تزول الزوجية أيضا ، ما لم يثبت موته .

                                                                                                                                            وروي ذلك عن علي . وإليه ذهب ابن شبرمة ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي في الجديد . وروي ذلك عن أبي قلابة ، والنخعي ، وأبي عبيد . وقال مالك ، والشافعي في القديم : تتربص أربع سنين ، وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا ، وتحل للأزواج ; لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالعنة ، وتعذر النفقة بالإعسار ، فلأن يجوز هاهنا لتعذر الجميع أولى ، واحتجوا بحديث عمر في المفقود ، مع موافقة الصحابة له ، وتركهم إنكاره . ونقل أحمد بن أصرم ، عن أحمد : إذا مضى عليه تسعون سنة ، قسم ماله . وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج .

                                                                                                                                            قال أصحابنا : إنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته ; لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر ، فإذا اقترن به انقطاع خبره ، وجب الحكم بموته ، كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلاك . والمذهب الأول ; لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة ، فلم يحكم بموته ، كما قبل الأربع سنين ، أو كما قبل التسعين ، ولأن هذا التقدير بغير توقيف ، والتقدير لا ينبغي أن يصار إليه إلا بالتوقيف ; لأن تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته ، يفضي إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ، ولا نظير لهذا ، وخبر عمر ورد في من ظاهر غيبته الهلاك ، فلا يقاس عليه غيره . القسم الثاني ، أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك ، كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا ، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع ، أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع ، فلا يظهر له خبر ، أو يفقد بين الصفين ، أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض رفقته ، أو يفقد في مهلكة ، كبرية الحجاز ونحوها ، فمذهب أحمد الظاهر عنه ، أن زوجته تتربص أربع سنين ، أكثر مدة الحمل ، ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا .

                                                                                                                                            وتحل للأزواج قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : تذهب إلى حديث عمر ؟ قال : هو أحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه . ثم قال : زعموا أن عمر رجع عن هذا . هؤلاء الكذابين . قلت : فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا ؟ قال : لا ، إلا أن يكون إنسان يكذب . وقلت له مرة : إن إنسانا قال لي : إن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك . فضحك ، ثم قال : من ترك هذا القول أي شيء يقول ، وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير . قال أحمد : خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وبه قال عطاء ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن ، والزهري ، وقتادة ، والليث ، وعلي بن المديني ، وعبد العزيز بن أبي سلمة .

                                                                                                                                            وبه يقول مالك ، والشافعي في القديم ، إلا أن مالكا قال : ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت . وقال سعيد بن المسيب ، في امرأة المفقود بين الصفين : تتربص سنة ; لأن غلبة هلاكه هاهنا أكثر من غلبة غيره ، لوجود سببه . وقد نقل عن أحمد ، أنه قال : كنت أقول : إذا تربصت أربع سنين ، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرا . تزوجت . وقد [ ص: 107 ] ارتبت فيها ، وهبت الجواب فيها ، لما اختلف الناس فيها ، فكأني أحب السلامة . وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله ، وتتربص أبدا ، ويحتمل التورع ، ويكون المذهب ما قاله أولا .

                                                                                                                                            قال القاضي : أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة ، وعندي أن المسألة على روايتين . وقال أبو بكر : الذي أقول به - إن صح الاختلاف في المسألة - أن لا يحكم بحكم ثان إلا بدليل على الانتقال ، وإن ثبت الإجماع ، فالحكم فيه على ما نص عليه . وظاهر المذهب على ما حكيناه أولا . نقله عن أحمد الجماعة ، وقد أنكر أحمد رواية من روى عنه الرجوع ، على ما حكيناه من رواية الأثرم . وقال أبو قلابة ، والنخعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأصحاب الرأي ، والشافعي في الجديد : لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه ; لما روى المغيرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { امرأة المفقود امرأته ، حتى يأتيها الخبر } .

                                                                                                                                            . وروى الحكم وحماد عن علي : لا تتزوج امرأة المفقود ، حتى يأتي موته أو طلاقه . لأنه شك في زوال الزوجية ، فلم تثبت به الفرقة ، كما لو كان ظاهر غيبته السلامة . ولنا ، ما روى الأثرم . والجوزجاني ، بإسنادهما عن عبيد بن عمير ، قال : فقد رجل في عهد عمر ، فجاءت امرأته إلى عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : انطلقي ، فتربصي أربع سنين . ففعلت ، ثم أتته ، فقال : انطلقي ، فاعتدي أربعة أشهر وعشرا . ففعلت ، ثم أتته ، فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فجاء وليه ، فقال : طلقها . ففعل ، فقال لها عمر : انطلقي ، فتزوجي من شئت . فتزوجت ، ثم جاء زوجها الأول ، فقال له عمر : أين كنت ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، استهوتني الشياطين ، فوالله ما أدري في أي أرض الله ، كنت ؟ عند قوم يستعبدونني ، حتى اغتزاهم منهم قوم مسلمون ، فكنت في ما غنموه ، فقالوا لي : أنت رجل من الإنس ، وهؤلاء من الجن ، فما لك وما لهم ؟ فأخبرتهم خبري ، فقالوا : بأي أرض الله تحب أن تصبح ؟ قلت : المدينة هي أرضي . فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة . فخيره عمر ; إن شاء امرأته ، وإن شاء الصداق ، فاختار الصداق ، وقال : قد حبلت ، لا حاجة لي فيها .

                                                                                                                                            قال أحمد : يروى عن عمر ، من ثلاثة وجوه ، ولم يعرف في الصحابة له مخالف . وروى الجوزجاني وغيره ، بإسنادهم عن علي في امرأة المفقود : تعتد أربع سنين ، ثم يطلقها ولي زوجها ، وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا ، فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك ، خير بين الصداق وبين امرأته . وقضى به عثمان أيضا ، وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم . وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر ، فكانت إجماعا .

                                                                                                                                            فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يثبت ، ولم يذكره أصحاب السنن . وما رووه عن علي ، فيرويه الحكم وحماد مرسلا ، والمسند عنه مثل قولنا ، ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته السلامة ، جمعا بينه وبين ما رويناه . وقولهم : إنه شك في زوال الزوجية . ممنوع ، فإن الشك ما تساوى فيه الأمران ، والظاهر في مسألتنا هلاكه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية