الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6776 ) فصل : وعلى هذا ، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول ، لزم الولي أخذه ، ولم يكن له المطالبة بغيره ، سواء كان من أهل ذلك النوع ، أو لم يكن ; لأنها أصول في قضاء الواجب ، يجزئ واحد منها ، فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه ، كخصال الكفارة ، وكشاتي الجبران في الزكاة مع الدراهم . وإن قلنا : الأصل الإبل خاصة . فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب ، وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها ، فللآخر منعه ; لأن الحق متعين فيها ، فاستحقت ، كالمثل في المثليات المتلفة .

                                                                                                                                            وإن أعوزت الإبل ، ولم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل ، فله العدول إلى ألف دينار ، أو اثني عشر ألف درهم . وهذا قول الشافعي القديم . وقال في الجديد : تجب قيمة الإبل ، بالغة ما بلغت ; لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ، ولأن ما ضمن بنوع من المال ، وجبت قيمته ، كذوات [ ص: 291 ] الأمثال ، ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت قيمتها ، ينبغي أن تجزئ وإن كثرت قيمتها ، كالدنانير إذا غلت أو رخصت . وهكذا ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها ، فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها ، إلا أن هذا لم يجدها ، لكونها في غير بلده ، ونحو ذلك ، فإن عمر قوم الدية من الدراهم اثني عشر ألفا وألف دينار .

                                                                                                                                            ( 6777 ) فصل : وظاهر كلام الخرقي ، أنه لا تعتبر قيمة الإبل ، بل متى وجدت على الصفة المشروطة ، وجب أخذها ، قلت قيمتها أو كثرت ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي . وذكر أصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد ، أن تؤخذ مائة ، قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما ، فإن لم يقدر على ذلك ، أدى اثني عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ; لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا ، فدل على أن ذلك قيمتها ، ولأن هذه إبدال محل واحد ، فيجب أن تتساوى في القيمة ، كالمثل والقيمة في بدل القرض ، والمتلف في المثليات .

                                                                                                                                            ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } . وهذا مطلق فتقييده يخالف إطلاقه ، فلم يجز إلا بدليل ; ولأنها كانت تؤخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيمتها ثمانية آلاف ، وقول عمر في حديثه : إن الإبل قد غلت . فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفا ، دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك ، وقد كانت تؤخذ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من ولاية عمر ، مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين ، فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين دية الخطأ والعمد ، فغلظ دية العمد ، وخفف دية الخطأ ، وأجمع عليه أهل العلم ، واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما ، وجمع بين ما فرقه الشارع ، وإزالة للتخفيف والتغليظ جميعا ، بل هو تغليظ لدية الخطأ ; لأن اعتبار ابن مخاض بقيمة ثنية أو جذعة ، يشق جدا ، فيكون تغليظا للدية في الخطأ ، وتخفيفا لدية العمد ، وهذا خلاف ما قصده الشارع ، وورد به ، ولأن العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات ، فلو كانت تؤدى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة واحدة ، ويعتبر ذلك فيها لنقل ، ولم يجز الإخلال به ; لأن ما ورد به الشرع مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة ، فإذا أريد به ما يخالف العادة ، وجب بيانه وإيضاحه ; لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث للبيان ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } .

                                                                                                                                            فكيف يحمل قوله على الإلباس والإلغاز ، هذا مما لا يحل . ثم لو حمل الأمر على ذلك لكان الأسنان عبثا غير مفيد ، فإن فائدة ذلك إنما هو كون اختلاف أسنانها مظنة اختلاف القيم ، فأقيم مقامه ; ولأن الإبل أصل في الدية ، فلا تعتبر قيمتها بغيرها ، كالذهب والورق ، ولأنها أصل في الوجوب ، فلا تعتبر قيمتها ، كالإبل في السلم وشاة الجبران ، وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا ; فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر ، وقيمتها أقل من اثني عشر ألفا ، وقد قيل : إن قيمتها كانت ثمانية آلاف . ولذلك قال عمر : دية الكتابي أربعة آلاف . وقولهم : إنها أبدال محل واحد . فلنا أن نمنع ، ونقول : البدل إنما هو الإبل ، وغيرها معتبر بها .

                                                                                                                                            وإن سلمنا ، فهو [ ص: 292 ] منتقض بالذهب والورق ، فإنه لا يعتبر تساويهما ، وينتقض أيضا بشاة الجبران مع الدراهم . وأما بدل القرض والمتلف ، فإنما هو المثل خاصة ، والقيمة بدل عنه ; ولذلك لا تجب إلا عند العجز عنه بخلاف مسألتنا . فإن قيل : هذا حجة عليكم ; لقولكم : إن الإبل هي الأصل ، وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويها كالمثل والقيمة . قلنا : إذا ثبت لنا هذا ، ينبغي أن يقوم غيرها بها ، ولا تقوم هي بغيرها ; لأن البدل يتبع الأصل ، ولا يتبع الأصل البدل ، على أنا نقول : إنما صير إلى التقدير بهذا ; لأن عمر ، رضي الله عنه قومها في وقته بذلك ، فوجب المصير إليه ، كيلا يؤدي التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة ، كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر ، نفيا للتنازع في قيمته ، فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى التقويم ، فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ، ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجوبها بعينها ، على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المحل المقرض ، فاعتبر مساواة كل واحد من بدليه له .

                                                                                                                                            والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ; ولهذا لا تعتبر صفاته . وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاة والحلل ، يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا ، فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما ، وقيمة كل شاة ستة دراهم ، لتتساوى الأبدال كلها ، وكل حلة بردتان ، فيكون أربعمائة برد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية