الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

نظرات في مسيرة العمل الإسلامي

عمر عبيد حسنة

فقه التعامل

لذلك فقد يكون المطلوب، أكثر من أي وقت مضى، من دعاة الإسلام والعاملين في الحقل الإسلامي - إلى جانب الحيطة والحذر واليقظة الدائمة، للحيلولة دون ممارسة عمليات الاحتواء عليهم وخوض المعارك بدمائهم، وتصفية الحسابات بين الخصوم بسواعدهم - أن يبرهنوا للناس أنهم دعاة أفكار ومبادئ، وحملة مقاييس منضبطة، يعرفون ما يأخذون وما يدعون، وليسوا إقطاعات بشرية لأشخاص كائنين من كانوا حتى ولو خرجوا من الصف الإسلامي نفسه، وأن المطالبة بتطبيق الشريعة ليست حكرا على أحد أو عنوانا لجماعة أو طائفة أو حزب، وإنما هـي مطلب جماهيري من ورائه جميع المسلمين للتخلص من المناهج والقوانين غير الإسلامية التي كانت أداة تمزيق فرضت على العالم الإسلامي بقوة المستعمر وحراب رجاله، فأوقعت العالم الإسلامي بعد أن فرقته بوهدة التخلف، ذلك أن تطبيق القوانين والمناهج غير الإسلامية في بلاد المسلمين يورث مزيدا من التخلف، ويقتل الإبداع ويصيب المسلم بمركب النقص ، ويوقع في عقدة التفوق للأجنبي، ويورث مزيدا من العطالة، ويشعر المسلم بالإثم الدائم من تعطيل شريعة الله، ولا يجد من نفسه أي احترام لقانون لا يمت إليها بصلة..

نقول قد يكون المطلوب من العاملين للإسلام، أكثر من أي وقت مضى، التفريق بين الأفكار وبين الأشخاص، أو بعبارة أدق: الانتقال من مرحلة الأشخاص إلى مرحلة الأفكار عمليا، نعرف الحق فنلتقي عليه ونستمسك به، وندور معه حيث يدور، ونلتقي مع الأشخاص عليه ونفترق عليه، ونؤيد كل عمل وتشريع بمقياس الإسلام، ونرفض ما نرفض بمقياس الإسلام، وبذلك نبرهن على أننا أصحاب مبادئ ولسنا رجال مصالح.

وقد يكون المطلوب من العاملين للإسلام الآن أيضا امتلاك القدرة على فقه التعامل مع المجتمعات والانفتاح أكثر وفتح منافذ جديدة للدعوة الإسلامية وامتلاك قدر أكبر من المرونة مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف والتقدير للإمكانات، والخروج من العزلة التي كادت تحيط بهم لتجعل منهم [ ص: 116 ] جسما غريبا منفصلا عن جسم الأمة، وتجعل لهم أهدافـا منفصلة أيضا عن أهداف الأمة، الأمر الذي يسهل على أعداء الإسلام ضربهم، ومن ثم القضاء عليهم تحت شتى العناوين والشعارات.

إن الوقوف عند حدود الرفض والإدانة لواقع الأمة.. والاكتفاء بالخطب الطنانة الرنانة لم ولن يغير شيئا من هـذا الواقع، وإنما ينقلب إلى حالة سلبية لا يحسن صاحبها غيرها، وقد يكون إلى حد بعيد ستارا لإحساس بالعجز عن المدافعة في معترك الحياة وحماية لشخصية هـشة عاجزة عن المواجهة وحسن التدبير والتصرف.

إن فقه التعامل مع المجتمعات الذي نرمى إليه لا يعني أبدا التعاون معها على ما هـي فيه من قيم وتشريعات بعيدة عن الإسلام، كما لا يعني أبدا أن يكون دعاة الإسلام دما جديدا في قوة الباطل، أو أن يوظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية وإنما يعني النزول إلى الساحة وفهم واقع الناس حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم ذلك أن الناس هـم محل دعوة الله، وأنهم خليقون بالشفقة والإنقاذ.

إن استعلاء الإيمان الذي أراده لنا الإسلام بقوله تعالى: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران: 139) لا يخرج عن كونه ضربا من الاعتزاز بهذا الدين، وحصانة نفسية بين المسلم وبين الهزيمة والذوبان في المجتمع غير الإسلامي رغم قوته وانتصاره الظاهري، وفقدان عملية التوازن الاجتماعي حيث لا يرى المسلم إلا أحد طريقين:

إما الذهاب إلى المجتمع والذوبان فيه وعدم العودة إلى الإسلام وانطفاء الفاعلية، وإما عمليات الرفض والإدانة والجلد للمجتمع.. الأمر الذي يحول بين المسلم ووظيفته في عملية البلاغ المبين.

إن استعلاء الإيمان هـو حصانة ضمن المعركة الاجتماعية لا يعني بحال من الأحوال الكبر والاستكبار والترفع عن الناس والهروب من الساحة، وإنما يعني التواضع ولين الجانب والمرونة والابتعاد عن الفظاظة والغلو الذي يعين الشيطان على إبعاد الناس عن الإسلام ويؤدي إلى المساهمة السلبية في التنكر لهذا الدين وأتباعه. [ ص: 117 ]

المطلوب: فقه التعامل مع المجتمع لإنقاذه، وليس التعاون معه على الباطل، أو النكوص عن الدعوة والهروب من الساحة، والحكم على الناس غيابيا.

لقد آن الأوان لنعرف كيف نتعامل مع الصورة القائمة في حياة المسلمين، إننا مع كل من يلتزم بهذه المبادئ كائنا من كان، ولسنا مع من يتنكر لها أو يتحايل عليها كائنا من كان، ولو كان أقرب الناس إلينا، وإن كل إنسان يخطئ ويصيب إلا المعصوم؛ وإننا سنؤيد كل خطوة صوب الإسلام مع الوعي الكامل لدوافعها ووسائلها، ونرفض كل ما لا يمت للإسلام بصلة بمختلف الوسائل المتاحة..

[ ربيع الأول: 1404هـ - كانون الأول (ديسمبر) : 1983م] [ ص: 118 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية