الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

نظرات في مسيرة العمل الإسلامي

عمر عبيد حسنة

قراءة في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه

والأمر الذي نريد أن نعرض له هـنا بهذه المناسبة ونقرأ من أخباره هـو سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه ، التي كانت مهمتها استطلاع أخبار العدو.إلا أنه حدث اجتهاد خاطئ أخرجها عن مهمتها الأصلية، فبالغ الكفار بالتشهير في هـذا الخطأ واستغلوه، وأرادوا أن يجعلوا منه سهما يرمون به الإسلام، ويلحقون المعرة بأهله، ليغطوا جرائمهم الكبيرة ويتخذوا منه وسيلة إعلامية، يمارسون من خلالها التضليل، فماذا كان موقف المسلمين؟ هـل أنكروا الخطأ وتستروا عليه؟ وكابروا فيه وكذبوه؟ كيف عالج الوحي هـذه القضية؟! هـذا ما نريد قراءته في خبر تلك السرية.. ذلك أن هـذه الحادثة كانت في رجب الشهر الحرام، وأن العالم الإسلامي والدعاة إلى الله اليوم يعانون من أحوال مماثلة إلى حد بعيد، ويعيشون مشكلات قد تبدو في ظاهرها معقدة، ولا يهتدون فيها إلى حل، وفي تقديرنا أن المعادلة الصعبة التي نعاني منها على أكثر من مستوى والتي ذهب الناس في حلها بين الإفراط والتفريط، ويمكن لنا من خلال القراءة المبصرة في الكتاب والسنة، والسيرة العملية، أن نلقي عليها بعض الإضاءات، التي تجعلنا أكثر إدراكا لأبعاد المعركة بين الإسلام وخصومه، وأكثر قدرة على المواجهة، وأغنى حكمة في المعالجة، ولنبدأ بقراءة الحادثة كما وردت في السيرة الصحيحة:

قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد.. وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه، حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.

فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم.. فلما نظر في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله. [ ص: 91 ]

فمضى ومضى معه أصحابه، لم يتخلف منهم أحد.. حتى نزل نخلة فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هـشام بن المغيرة. فلما رآهم القوم هـابوهم وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقال: عمار، لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هـذه الليلة ليدخلن الحرم، فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم.

ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم.

وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدموا على رسول صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. فوقف العير والأسيرين، وأبي أن يأخذ من ذلك شيئا..

فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم فظنوا أنهم قد هـلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.. وقالت يهود، تفائل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله: عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب. فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.

فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم :

( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة: 217) .

أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر [ ص: 92 ] به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل، أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هـم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين ولهذا قال تعالى: ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا. ) (البقرة: 217) .

قال ابن إسحاق: فلما تجلى عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فأنزل الله فيهم: ( إن الذين آمنوا والذين هـاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم ) (البقرة: 218) ، فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (ابن كثير الجزء الثاني ص 366 - 369) .

هذا خبر سرية عبد الله بن جحش والملابسات التي رافقت الأمر، كما رواها الحافظ ابن كثير في كتابه، وما ورد في كتب السيرة الأخرى وأسباب النزول لا يخرج بمجموعه عما ذكره ابن كثير رحمه الله..

التالي السابق


الخدمات العلمية