الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيه يقع التعارض في الشرع بين الدليلين كما ذكرنا وبين البينتين ، بأن تقوم بينة لزيد بكذا ولعمرو به ، وبين الأصليين ، كما لو قد ملفوفا وزعم الولي حياته والجاني موته فإن الأصل بقاء الحياة ، والأصل براءة الذمة ، وبين الأصل والظاهر كثياب الكفار .

                                                      ويختلف العلماء في ذلك كله ، واتفقوا على تغليب الأصل على الغالب في الدعاوى ، وعلى تغليب الغالب على الأصل في البينة ، فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة ، وقال إمام الحرمين في باب زكاة الفطر من النهاية " : تقابل الأصلين مما يستهين به الفقهاء وهو من غوامض مآخذ الأدلة الشرعية ، وكيف يستجيز المحصل اعتقاد تقابل أصلين لا يرجح أحدهما على الآخر ؟ ، وحكى فيهما النفي والإثبات ، وهذا لو فرض لكان مباهتة ومحاورة لا سبيل إلى بت قول فيها في فتوى أو حكم ، إذا علمت ذلك فالتعادل بين الدليلين القطعيين المتنافيين ممتنع اتفاقا سواء كانا عقليين ، أو نقليين ، وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي لأنه لو وقع لاجتمع النقيضان أو ارتفعا ، وهذا فيه أمران : ( أحدهما ) : أنه بناء منهم على أن العلوم غير متفاوتة فإن قلنا بتفاوتهما اتجه الترجيح بين القطعيات لأن بعضها أجلى من بعض [ ص: 125 ]

                                                      ( ثانيها ) : أنه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما في الأذهان فجائز ، فإنه قد يتعارض عند الإنسان دليلان قاطعان بحيث يعجز عن القدح في أحدهما ، وقد ذكروا هذا التفصيل بالنسبة إلى الأمارتين فليجئ مثله في القاطعين ، وأما التعادل بين الأمارتين في الأذهان فصحيح ، وأما في نفس الأمر على معنى أنه ينصب الله تعالى على الحكم أمارتين متكافئتين في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح ، فاختلفوا فيه ، فمنعه الكرخي وغيره ، وقالوا : لا بد أن يكون أحد المعنيين أرجح وإن جاز خفاؤه على بعض المجتهدين ، ولا يجوز تقدير اعتدالهما قال إلكيا : وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء ، وبه قال العنبري وقال ابن السمعاني : إنه مذهب الفقهاء ونصره ، وحكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل ، وهو الذي ذكره القاضي وأبو الخطاب من أصحابه ، وصار صائرون إلى أن ذلك جائز ، وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم ، ونقل عن القاضي أبي بكر قال إلكيا : وهو المنقول عن الشافعي ، ثم اختار إلكيا قول الكرخي ، ونقله عن إمام الحرمين ، وقال : إنه قطع به قال : والاستحالة متلقاة من العادة المطردة ، وما نقله عن الشافعي إن كان من جهة قوله بالقولين في مسائل كثيرة فلا يدل ، لأنه تعادل ذهني ، ولا نزاع فيه ، وإن كان من جهة قوله في البينتين فالمأخذ مختلف ، بل نص على الامتناع في الرسالة " ، فقال في باب علل الأحاديث : ولم نجد عنه صلى الله عليه وسلم حديثين نسبا للاختلاف فكشفناه إلا وجدنا لهما مخرجا ، وعلى أحدهما دلالة بموافقة كتاب أو سنة ، أو غيره من الدلائل انتهى وقرره الصيرفي في شرحها فقال : قد صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أبدا حديثان صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمالي والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده .

                                                      وقد حكى الجرجاني من الحنفية قول الكرخي بالمنع ، ثم قال : وهو اختلاف [ ص: 126 ] قول أبي حنيفة - رحمه الله - في سؤر الحمار لما تساوى عنده الدليلان توقف عنه ، وليس كما قال لأن أبا حنيفة لم يخير في الأخذ بأيهما شاء ، بل أخذ بالأحوط وجمع بين الدليلين ، فقال : يتوضأ به ويتيمم ، نعم ، حكي عنه التخيير في وجوب زكاة الخيل وعدمه ، وهذا هو الخلاف الذي يعبرون عنه بتكافؤ الأدلة ، والراجح كما قاله في اللمع " - أنه لا يجوز ، بل لا بد من ترجيح أحدهما على الآخر ، وهو الذي نصره ابن السمعاني وغيره ، وقال سليم في التقريب " : إنه الأشبه ، لأن الأحاديث أحادية تؤدي إلى تكافؤ الأدلة وتعارضها ، وهو خلاف موضوع الشريعة لئلا يلزم خلو الوقائع عن حكم الله وفصل القاضي من الحنابلة بين مسائل الأصول فيمتنع ، وبين الفروع فيجوز ، فإن أراد بالأصول القطعي فليس خلافنا فيه ، ثم قال ابن دقيق العيد : هذا الخلاف يحتمل أن يكون في الوقوع ، ويحتمل أن يكون في التجويز العقلي قلت : هو جار فيهما ، فقد حكى ابن فورك قولا بامتناع وجود خبرين لا ترجيح بينهما ، وعزاه ابن برهان لأحمد والإمام ، وحكى الماوردي والروياني في خلاف تكافؤ الأدلة وجهين لأصحابنا ، ونقل أن الأكثرين على جوازه ووقوعه وقد قال عثمان - رضي الله عنه - لما سئل عن الجمع بين الأختين المملوكتين فقال : حرمتهما آية وأحلتهما آية ، ثم قضية إمام الحرمين في موضع أن الجواز جار ، سواء قلنا : المصيب واحد أو كل مجتهد مصيب ، وقال القاضي ، والأستاذ أبو منصور ، والغزالي ، وابن الصباغ : الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على قول من رأى أن المصيب في الفروع واحد ، وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فلا معنى لترجيح ظاهر على ظاهر ، لأن الكل صواب عنده واختار الرازي وأتباعه أن تعادل الأمارتين على حكم واحد في فعلين متباينين جائز وواقع ، [ ص: 127 ] كمن ملك مائتين من الإبل فإن واجبه أربع حقاق أو خمس بنات لبون وأما تعارضهما على حكمين متباينين لفعل واحد كالإباحة والتحريم - مثلا - فإنه جائز عقلا ، ولكنه ممتنع شرعا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية