الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقد ذكر ذلك من أصحابنا الأصوليين الشيخ في اللمع " فقال : إذا تعارض عامان ، فإن أمكن استعمالهما في حالين استعملا ، وإلا وجب التوقف وكذا قال سليم في التقريب " : إذا ورد مثل " اقتلوا المشركين " ، " لا تقتلوا المشركين " فإنهما يستعملان ، فيحمل كل منهما على بعض ما تناوله ، ويخص في الثاني وقيل : يتوقف فيهما وأما إمام الحرمين فنقل ذلك عن الفقهاء وقال : هو مردود عند الأصوليين ، بل لا بد من دليل خارج عن ذلك وأما أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص التالي ، والثاني في تخصيص الأول فلا سبيل إليه وهذا تابع فيه القاضي ، ثم قال : وكأن الفقهاء رأوا تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه ، والظاهر أنهما على تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل .

                                                      قال ابن المنير : وكأن الإمام ظن أن الفقهاء يتحكمون بتعيين صورة من صورة حتى تكون هذه ثابتة وهذه مخرجة وليس كذلك ، بل صنيعهم راجع إلى أن العمل مع الإمكان خير من التعطيل والقائل بالتعارض عطلهما جميعا ، والقائل بتخصيص كل منهما ببعض صوره عمل بهما جميعا حسب إمكانه ثم لهم في التعيين طريقة مستأنفة ، وذلك لأن صور العام لا بد أن تتفاوت باعتبار ثبوت ذلك الحكم ، فتعيين الفقهاء أولى الصور بالحكم لأنهم لو عينوا القسم الآخر لزم عموم الحكم ضرورة أن ثبوته في الأدنى يقتضي [ ص: 151 ] ثبوته في الأعلى ، مثاله : إذا قابلنا بين حديث { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله } مع قوله : { خذ من كل حالم دينارا } كان الحديث الأول يقتضي أن لا تقبل الجزية من أحد ، والثاني يقتضي قبولها من كل أحد ، فإذا حملنا كلا منهما على بعض صوره نظرنا في صور الكفار وجدناها قسمين : كتابيا وغير كتابي ، فعينا الكتابي للجزية ، وغيره للسيف وليس هذا احتكاما ، ولكن لما لم يكن بد من التخصيص وجدنا الكتابي أولى بالقبول من غيره ، لأنه أقرب إلى أن يستبقى ، إذ له عقيدة ما ولهذا أجاز الشرع نكاح الكتابيات دون الوثنيات ، ولهذا لما نشبت الحرب بين فارس والروم كان المسلمون يتمنون نصرة الروم ، لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يتمنون نصرة فارس ، لأنهم مثلهم بلا كتاب فبهذه الطريقة يعين الفقهاء صور الإثبات من صور الإخراج ، لا بالاحتكام وبذلك يزول عنهم ألسنة الطاعنين .

                                                      وأما قول الإبياري : تخصيص العمومين تعطيل لهما فلا يصح قول الفقهاء : في الجمع عمل بهما فهذا ينتقض عليه بما إذا تعارض عام وخاص ، فإنه وافق على أن القضاء بالخاص على العام يتعين لأنه عمل بهما قلت : والتحقيق إنه إذا لم نجد متعلقا سواهما تصدى لنا الإلغاء والجمع ، والأليق بالشرع الجمع وإن وجدنا متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع وهو الظاهر من تصرف الشافعي ، فإنه حمل حديث ابن بريدة على عمومه في أهل الكتاب وحديث أبي هريرة في أهل الأوثان ، فقال : لا يقضي بأحدهما على الآخر ، لتساويهما في القضاء ، إلا أنه ليس له أن يقول { حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يعطوا } إلا وللآخر أن يقول : إنه أمره أن يدعوهم إلى إحدى خلال إذا كانوا من أهل الكتاب وإذ تعارضا رجعنا إلى دلالة الكتاب فقد قال تعالى : { ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية } فدل على أن من لم يكن من أهل الكتاب لا تؤخذ منه الجزية ، ولهذا امتنع عمر من أخذها من مجوس هجر .

                                                      [ ص: 152 ] ومثله اختلاف قوليه في إتمام وضوء الجنابة لأجل اختلاف روايتي عائشة وميمونة ولم يجمع بينهما كما فعل مالك بل رجح حديث عائشة لموافقته تشريع العبادة وكذلك فعل في القراءتين فإنه اختلف قولاه في انتقاض وضوء الملموس لأجل تعارض قراءة ( لمستم ) و ( لامستم ) ورجح النقض بأمر خارجي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية