الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثالث : أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد : فإن كان اجتهد في الواقعة فلا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين فيها ، خلاف ما ظنه ، بلا خلاف ، لأن ظنه لا يساوي الظن المستفاد من غيره ، والعمل بأقوى الظنين واجب . و [ لو ] خالف وحكم بخلاف ظنه فقد أثم ، وإن كان مذهبا لغيره . وهل ينتقض حكمه ؟ فيه وجهان للحنابلة ، ذكره صاحب المستوعب " . وهو يقدح في نقل ابن الحاجب الاتفاق على بطلان حكمه . واستثنى القاضي أبو الطيب من هذا القسم ما إذا كان حكما يجب هل أو عليه يحتاج في فصله إلى حاكم بينهما باجتهاده ، فيجوز له تقليده في هذه الصورة .

                                                      وإن لم يكن قد اجتهد ففيه بضعة عشر مذهبا : الأول - المنع منه مطلقا ، وإليه ذهب الأكثرون ، منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ ، واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب . قال الباجي : وهو قول أكثر أصحابنا ، وهو الأشبه بمذهب مالك ، وسواء كان [ ص: 335 ] الوقت موسعا أو مضيقا ، ونقله الروياني عن عامة الأصحاب ، وظاهر نص الشافعي ، ذكره في أول البحر " وكذا نقله الشيخ أبو حامد عن عامة الأصحاب خلا ابن سريج ، قال : وقال أبو إسحاق إنه مذهب الشافعي ، ونقله الأستاذ أبو منصور وأبو بكر الرازي عن أبي يوسف ومحمد ، وهو النص لأحمد بن حنبل . والثاني يجوز مطلقا ، وعليه سفيان الثوري وإسحاق ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن أبي حنيفة . وقال الأستاذ أبو منصور قال الكرخي : يجوز في قول أبي حنيفة ، وكذا حكاه عنه أبو بكر الرازي في أصوله قال : ولهذا جوز تقليد القاضي فيما ابتلي به من الحكم . قال القرطبي : وهو الذي ظهر من تمسكات مالك في الموطأ .

                                                      وقال بعض الحنابلة : حكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن مذهبنا ذلك ، ولا نعرف . والثالث - يجوز تقليد الصحابة فقط ، ونقل عن الشافعي في القديم ، وكأنه أخذه من تقليده زيد بن ثابت وعثمان وغيرهما . وقد أجاب الروياني بأن ذلك ليس تقليدا وإنما هو اتفاق رأيه لرأيهم وفيه نظر ، لأنه صرح في عثمان بالتقليد . ونقل الأستاذ أبو منصور وإمام الحرمين عن أحمد أنه يجوز تقليد الصحابة ولا يقلد أحد بعدهم غير عمر بن عبد العزيز . واستغربه بعض أئمة الحنابلة . والرابع : يجوز تقليد الصحابة بشرط أن يكون أرجح في نظره من غيره ، فإن استووا في نظره فيها تخير في التقليد لمن شاء منهم ، ولا يجوز له تقليد من عداهم . وعزاه ابن الحاجب إلى الشافعي . والخامس - يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم . والسادس - يقلد من هو أعلم منه ، ولا يقلد من هو مثله .

                                                      ونقله أبو بكر الرازي عن الكرخي وقال : إنه ضرب من الاجتهاد ، ومن يقويه [ ص: 336 ] رأي الآخر في نفسه على رأيه لفضل عليه فلم يخل في تقليده إياه من استعمال الاجتهاد . ونقله القاضي في التقريب " والروياني عن محمد بن الحسن ، وكذا إلكيا . قال ، وربما قال : إنهما سواء ، وعن هذا أوجب قوم تقليد الصحابة لأنهم أعلم ، ونقله صاحب المعتمد عن ابن سريج وشرط معه ضيق الوقت . والسابع - يجوز التقليد فيما يتعلق بنفسه دون ما يفتي به ، حكاه ابن القاص عن ابن سريج ، وهو يقتضي أنه لا يجوز له الحكم به من باب أولى ، وهو مبني على تصويب المجتهدين . والثامن - يجوز تقليد مثله فيما يخصه إذا خشى فوات الوقت فيها باشتغاله بالحادثة ، وهو رأي ابن سريج ، قال الشيخ أبو حامد : حكى عنه أنه قال : إنهم إذا كانوا في سفينة وخفيت عليهم جهة القبلة قلدوا الملاحين . قال أبو العباس : وهذا مذهب الشافعي ، لأنه قال في الصلاة : فإن خفيت عليه الدلائل فهو كالأعمى ، وقد ثبت أن الأعمى يقلد . ورد عليه أبو إسحاق بأنه جعله كالأعمى في الصلاة يصلي على حسب حاله ثم يعيد ، ليس في أنه يجوز له التقليد . وقد حكى الروياني في البحر " هذا المذهب عن ابن سريج ثم غلطه . وقال ابن دقيق العيد : وقيل ، إن ضاق الوقت عن الاجتهاد فله ذلك .

                                                      وهذا قريب لأن المكنة التي جعلناها سببا لوجوب الاجتهاد قد تعذرت بسبب تضيق الوقت . وقد نفى القفال الخلاف بين الأصحاب في المنع من التقليد مع التمكن من الاجتهاد ، ولكن المحكي عن ابن سريج نقله عن صاحب التلخيص " سماعا منه . والتاسع - أنه لا يجوز لغير القاضي والمفتي في المشكل عليه . حكاه القفال الشاشي عن بعض أصحابنا قال : لأنه في المشكل عليه كالعامي ، ولكن الحاكم لا ضرورة له إلى التقليد بما عنده من الأقاويل وتولي غيره الحكم فيه . وكذلك المفتي يفوض ذلك إلى غيره من أهل العلم ، بخلاف المجتهد إذا حلت به نازلة ، فإنه مضطر إلى تعريف الحكم ، فإذا اشتبه عليه ولم [ ص: 337 ] يصل إلى تعريف الحكم إلا بتقليد غيره وجب عليه . وهو قريب من السابع . والعاشر - أنه يجوز للقاضي دون غيره . وهذا ظاهر ما نقله الأستاذ أبو منصور عن ابن سريج ، فإنه نصب الخلاف في حاكم تحضره الحادثة ويضيق الوقت عن الاجتهاد . ونقل عن ابن سريج أنه يجوز له أن يحكم بالتقليد ولا يفتي به إلا بعد اجتهاده ، قال : وقال أكثر أصحابنا : ليس له الحكم بالتقليد ، كما ليس له الإفتاء ، وعليه أن يؤخر حتى يجتهد أو يستخلف من اجتهد فيه قبله . انتهى .

                                                      وقضيته أن المنع من الإفتاء محل وفاق . وجعل ابن كج في كتابه في الأصول والشيخ أبو علي السنجي الخلاف في تقليده في حق نفسه ، فإن أراد أن يقلده ليفتي غيره أو يحكم به على غيره ولم يجز له بالاتفاق . وحكى الماوردي وابن الصباغ والبغوي والرافعي عن ابن سريج : إن حضر ما ينوبه ، كالحكم بين المسافرين وهم على الخروج جاز أن يقلد غيره ويحكم . قال الرافعي : وينبغي أن يطرده في الفتوى . وخالف ابن الرفعة وفرق بأن المستفتي بسبيل من تقليد المجتهد . ولا ضرورة إذا ولا حاجة بإفتاء المقلد ، ولا كذلك الحاكم ، خصوصا إذا منع من الاستخلاف . الحادي عشر - الوقف . وبه يشعر كلام إمام الحرمين ، فإنه قال : يجوز في العقل ورود التعبد به ، ولكن لم يقم الدليل على وجوده . والأمران يسوغان في العقل وقد تبين في الشرع وجوب أحدهما ، وهو الإجماع على أن للمجتهد الاجتهاد ، فهذا الواجب لا يزول إلا بدليل ، ونوزع في الإجماع فإن المجوز يقول : الواجب إما الاجتهاد وإما التقليد ، فحقيقة قوله الوقف .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية