الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6022 ) فصل : ولا يقع الطلاق بغير لفظ الطلاق ، إلا في موضعين ; أحدهما ، من لا يقدر على الكلام ، كالأخرس إذا طلق بالإشارة ، طلقت زوجته . وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأصحاب الرأي . ولا نعلم عن غيرهم خلافهم ; وذلك لأنه لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة ، فقامت إشارته مقام الكلام من غير نية ، كالنكاح ، فأما القادر ، فلا يصح طلاقه بالإشارة ، كما لا يصح نكاحه بها ، فإن أشار الأخرس بأصابعه الثلاث إلى الطلاق ، طلقت ثلاثا ; لأن إشارته جرت مجرى نطق غيره .

                                                                                                                                            ولو قال الناطق : أنت طالق . وأشار بأصابعه الثلاث . لم يقع إلا واحدة ; لأن إشارته لا تكفي . وإن قال : أنت طالق هكذا . وأشار بأصابعه الثلاث ، طلقت ثلاثا ; لأن قوله هكذا تصريح بالتشبيه بالأصابع في العدد ، وذلك يصلح بيانا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { الشهر هكذا وهكذا وهكذا } . وأشار بيديه مرة ثلاثين ، ومرة تسعا وعشرين . وإن قال : أردت الإشارة بالأصبعين المقبوضتين قبل منه ; لأنه يحتمل ما يدعيه الموضع الثاني ، إذا كتب الطلاق ، فإن نواه طلقت زوجته وبهذا قال الشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والحكم ، وأبو حنيفة ، ومالك وهو المنصوص عن الشافعي

                                                                                                                                            وذكر بعض أصحابه ، أن له قولا آخر ، أنه لا يقع به طلاق ، وإن نواه ; لأنه فعل من قادر على النطق ، فلم يقع به الطلاق ، كالإشارة ولنا أن الكتابة حروف ، يفهم منها الطلاق ، فإذا أتى فيها بالطلاق ، وفهم منها ، ونواه ، وقع كاللفظ ، ولأن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب ; بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ رسالته ، فحصل ذلك في حق البعض بالقول ، وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف ، ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في إثبات الديون [ ص: 374 ] والحقوق ; فأما إن كان كتب ذلك من غير نية ، فقال أبو الخطاب : قد خرجها القاضي الشريف في " الإرشاد " على روايتين ; إحداهما ، يقع وهو قول الشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والحكم ; لما ذكرنا والثانية : لا يقع إلا بنية وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، ومنصوص الشافعي ; لأن الكتابة محتملة ، فإنه يقصد بها تجربة القلم ، وتجويد الخط ، وغم الأهل ، من غير نية ، ككنايات الطلاق

                                                                                                                                            فإن نوى بذلك تجويد خطه ، أو تجربة قلمه ، لم يقع ; لأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع ، لم يقع ، فالكتابة أولى وإذا ادعى ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى ، ويقبل أيضا في الحكم في أصح الوجهين ; لأنه يقبل ذلك في اللفظ الصريح ، في أحد الوجهين ; فهاهنا مع أنه ليس بلفظ أولى وإن قال : نويت غم أهلي فقد قال ، في رواية أبي طالب ، في من كتب طلاق زوجته ، ونوى الطلاق : وقع ، وإن أراد أن يغم أهله ، فقد عمل في ذلك أيضا يعني أنه يؤاخذ به ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به } فظاهر هذا أنه أوقع الطلاق ; لأن غم أهله يحصل بالطلاق ، فيجتمع غم أهله ووقوع طلاقه ، كما لو قال : أنت طالق يريد به غمها

                                                                                                                                            ويحتمل أن لا يقع ; لأنه أراد غم أهله بتوهم الطلاق ، دون حقيقته ، فلا يكون ناويا للطلاق ، والخبر إنما يدل على مؤاخذته بما نواه عند العمل به ، أو الكلام ، وهذا لم ينو طلاقا ، فلا يؤاخذ به

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية