الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ولا بغبن ، ولو خالف العادة )

                                                                                                                            ش : .

                                                                                                                            قال في التوضيح الغبن بفتح الغين وسكون الباء عبارة عن بيع السلعة بأكثر مما جرت العادة أن [ ص: 469 ] الناس لا يتغابنون بمثله ، أو اشتراها كذلك ، وأما ما جرت به العادة فلا يوجب ردا باتفاق انتهى .

                                                                                                                            ، وقد تقدم كلام ابن رشد أن هذا الذي ذكره المصنف هو ظاهر المذهب ، وقال في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون لو باع رجل جارية قيمتها مائة وخمسون دينارا بألف دينار وارتهن رهنا ، وكان مشتريها من غير أهل السفه جاز ذلك .

                                                                                                                            قال ابن رشد : في قوله هذا ما يدل على أنه لا قيام في بيع المكايسة بالغبن ، ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف ، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع أشهب الواقعة في أول رسم منه من كتاب الرهون على الخلاف ويتأول منها وجوب القيام بالغبن في بيع المكايسة ، وليس ذلك بصحيح ; لأنه إنما يرى له الرد بالغبن لا من أجل اضطراره إلى البيع مخافة الحنث على ما ذكره في الرواية ، وقد حكى بعض البغداديين عن المذهب ، وعزاه لابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث ، وليس ذلك بصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرتزق بعضهم من بعض } ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم { غبن المسترسل ظلم } دليل على أنه لا غبن في غير المسترسل ، وما لم يكن فيه ظلم فهو حق لا يجب القيام به ، وقد استدل على ذلك بعض الناس بقوله صلى الله عليه وسلم في الأمة الزانية { بيعوها ، ولو بضفير } { وبقوله لعمر لا تشتره ، ولو أعطاكه بدرهم } ، وهذا لا دليل فيه ; لأنه خرج على التقليل مثل قوله في العقيقة { : ولو بعصفور } ، وقوله { من بنى مسجدا ، ولو بقدر مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة } وما أشبه ذلك كثير انتهى .

                                                                                                                            وقال ابن عبد السلام ظاهر الأحاديث يدل على صحة المشهور لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر في الجمل الذي باعه منه ، وقد ساومه { أولا تبيعه بدرهم فقال لا } ثم ثبت في الصحيح على أنه باعه بخمس أوراق على أن له ظهره إلى المدينة ، ثم ذكر حديث : { لا يبع حاضر لباد } وحديث الأمة الزانية وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ثم قال ابن رشد في سماع أشهب لما تكلم على المسألة المذكورة .

                                                                                                                            قال ابن دحون : هذه مسألة ضعيفة كيف يفسخ البيع للغبن وذلك جائز [ ص: 470 ] بين كل متبايعين إلا ما خصته السنة بالرد ، ولو اشترى رجل من غير مولى عليه ما يساوي مائة درهم بألف درهم لزم ذلك ، ولم يفسخ ولم يختلف في ذلك انتهى .

                                                                                                                            وقال في المقدمات في كتاب المرابحة : لا قيام للمبتاع في بيع المساومة بغبن ، ولا بغلط في المشهور من الأقوال ، وقيل : إنه يرجع بالغلط ، وأما في الغبن ، وهو الجهل بقيمة المبتاع فلا رجوع به في المساومة ، وهذا ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون ، ولا أعرف في المذهب في ذلك خلافا كان من الشيوخ من يحمل مسألة أشهب من الرهون على الخلاف في ذلك ، وليس بصحيح ; لأنها مسألة لها معنى أوجب من أجلها الرد بالغبن فليست بخلاف للمشهور من المذهب ، وقد حكى بعض البغداديين عن المذهب ، وأراه ابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث فتأمله وقف عليه انتهى .

                                                                                                                            ثم قال : وأما بيع الاستئمان والاسترسال فهو أن يقول الرجل : اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس فإني لا أعلم القيمة فيشتري منه بما يعطيه من الثمن وقال ابن حبيب : إن الاسترسال إنما يكون في البيع أن يقول الرجل للرجل : بعني كما تبيع الناس ، وأما في الشراء فلا ، ولا فرق بين البيع والشراء إذا كان الاسترسال .

                                                                                                                            والاستنامة واجبا بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم { غبن المسترسل ظلم } والاستنامة بالنون قبل الألف وبالميم بعدها كما ضبطه ابن غازي في أول فصل المرابحة ، وقد ذكر ابن عرفة في القيام بالغبن طرقا : الأولى : طريقة ابن رشد لكن ذكر كلامه في البيان ، ولم يذكر كلامه في المقدمات ، ثم ذكر الطريق الثانية عن أبي عمر بن عبد البر ، ونصه : أبو عمرو في بيع المسلم المستنصح يوجب للمغبون الخيار فيه ، وفي بيع غيره المالك أمر نفسه لا أعلم في لزومه خلافا ، ولو كان بأضعف القيمة وسمعه عيسى بن القاسم في كتاب الرهون ا هـ . ولم أقف على ما عزاه لكتاب الرهون في سماع عيسى إنما فيه ما تقدم عن سماع ابن القاسم ، ثم ذكر الطريقة الثالثة عن الباجي ، ونصه الباجي عن القاضي في لزوم البيع بما لا يتغابن بمثله عادة ، وأحدهما لا يعلم سعر ذلك إذا زاد الغبن على الثلث ، أو خرج عن العادة والمتعارف فيه قولان لأصحابنا فالأول : قاله ابن حبيب وحصل في التوضيح في ذلك ثلاثة طرق : طريقة ابن رشد ، ونقلها باختصار ، ونصه ، ولصاحب المقدمات طريقة ثالثة إن وقع البيع والشراء على وجه الاسترسال والاستنامة فالقيام بالغبن واجب ، وإن وقع على وجه المكايسة فلا قيام بالغبن اتفاقا .

                                                                                                                            والطريق الثانية : طريق المازري ; لأنه إذا أخبر البائع أنه غير عارف بقيمته ، فقال البائع : قيمتها كذا فله الرد ، وإن كان عالما بالبيع وبثمنه فلا رد له ، ولا خلاف في هذين القسمين ، وفيما عداهما قولان ابن عبد السلام ومشهور المذهب : عدم القيام بالغبن لغير العارف ، وفي العارف قولان ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت ) ما عزاه - رحمه الله - للمعونة عكس ما فيها ونصها في آخر بيع الخيار اختلف أصحابنا في بيع السلعة بما لا يتغابن الناس بمثله مثل أن يبيع ما يساوي ألفا بمائة ويشتري ما يساوي مائة بألف فمنهم من يقول يثبت الخيار للمغبون منهما ، ومنهم من قال الاختيار إذا كان من أهل الرشاد والبصر بتلك السلعة ، وإن كانا ، أو أحدهما بخلاف ذلك فللمغبون الخيار ا . هـ . ونحوه في التلقين قال في أوائل كتاب البيوع : الخيار يثبت بأمرين : أحدهما : بمقتضى العقد فيه ، وهو أن تكون فيه مغابنة خارجة عن حدها لتغابن الناس بمثله فقيل إن البيع لازم ، ولا خيار وقيل للمغبون منهما الخيار إذا دخل على بيع الناس المعتاد ا هـ . وقال في الاشتراء فإذا تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله في العادة ، وكان أحدهما ممن لا يخبر سعر ذلك المبيع فاختلف أصحابنا فمنهم من يقول لا خيار له ، ومنهم من يقول له الخيار إذا رد الغبن على الثلث ، أو خرج عن العادة والمتعارف ا هـ .

                                                                                                                            وكان المصنف - رحمه الله - تبع صاحب الجواهر في عزو [ ص: 471 ] هذه الطريقة للقاضي عبد الوهاب فإنه قال فيها .

                                                                                                                            قال القاضي أبو محمد : اختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من يرى أن يثبت الخيار للمغبون منهما ، ومنهم من قال : لا خيار إذا كان من أهل الرشاد والبصر بتلك السلعة ، وإن كانا ، أو المغبون منهما بخلاف ذلك فللمغبون الخيار ا هـ . وتبعه على ذلك القرافي في الذخيرة وابن الحاجب ، وكان صاحب الجواهر تصحف في نسخته من المعونة قوله نفي فذكر ما تقدم ، وكلامه في التلقين والإشراف يبين كلامه في المعونة ويبين ذلك أيضا توجيهه للقولين فإنه إنما بدأ بتوجيه القول بنفي الخيار ويؤيد ذلك أيضا ما نقله الباجي عن القاضي كما تقدم فإنه موافق لما ذكرنا فتأمله والله أعلم ( تنبيهات الأول : ) ما حكاه المصنف في التوضيح عن المازري فيه إجمال يبينه كلام صاحب الجواهر في حكايته طريقة المازري ، ونصه بعد أن حكى كلام القاضي المتقدم .

                                                                                                                            قال الإمام أبو عبد الله ليس الخلاف على الإطلاق إنما هو مقيد بأن يكون المغبون لم يستسلم إلى بائعه ، ويكون أيضا من أهل المعرفة بقيمة ما اشتراه ، وإنما وقع في الغبن غلطا يعتقد أنه غير غالط فأما إذا علم القيمة فزاد عليها فهو كالواهب ، أو فعل ذلك لغرض له فلا مقال له وكذلك إن استسلم لبائعه ، وأخبره أنه غير عالم بالقيمة ، فذكر له البائع ما غره به مثل أن يقول : أعطيت فيها كذلك ، ويسمي له بائعها منه قال فهذا ممنوع باتفاق ا هـ ( الثاني ) : إذا علم ذلك فقول المصنف : وهل إلا أن يستسلم ويخبره بجهله ، أو يستأمنه تردد يقتضي أن في تلك المسألة ثلاث طرق : الأولى : لا قيام للغبن ، ولو استسلم ، وأخبره بجهله ، والثانية : لا قيام بالغبن إلا إذا استسلم وأخبره بجهله والثالثة : لا قيام بالغبن إلا إذا استأمنه ، ولم أقف على الطريقة الأولى إلا إذا حملت طريقة القاضي عبد الوهاب التي ذكرناها عن المعونة والتلقين على إطلاقها ، وجعل القول الأول : فيها هو المشهور ، ولم أقف على ذلك ، فإن قلت قد .

                                                                                                                            قال في اللبان وأسباب الخيار خمسة الأول : الغبن قال في الإكمال المغابنة بين الناس ماضية إن كثرت ، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وقيل : للمغبون الخيار ، ثم ذكر كلام صاحب المقدمات فكلام صاحب الإكمال يقتضي نفي الخلاف مطلقا قلت : قال القاضي في الإكمال قبل الكلام الذي حكاه صاحب اللباب غبن المسترسل ، وهو المستسلم لبيعه ممنوع ، وله القيام إذا وقع ا هـ . ونقله الأبي عنه ، وقد اعتمد في الشامل على ظاهر كلام المصنف ، ولا يصح ذلك ، ونصه : وهل للمغبون في بيع وشراء مقال مطلقا ، أو لغير العارف ، وإن وقع على وجه الأمانة والاسترسال كبعني ، أو اشتر مني مثل الناس لا على وجه المكايسة ، وإن أخبره بجهله بالقيمة ، فقال له : هي كذا إلا إن كان عارفا بها ، وإلا فقولان : خلاف وشهر عدم القيام مطلقا ا هـ . فقوله : وشهر عدم القيام مطلقا يقتضي ذلك طريقة رابعة فإنه بدأ أولا بطريقة عبد الوهاب على ما نقل في الجواهر والتوضيح ، ثم بطريقة ابن رشد ، ثم بطريقة المازري ، ولا يحتاج لإثبات الطريقة الرابعة بقول ابن عبد السلام إثر حكايته الطريقة الثانية في كلام ابن الحاجب ، وهي طريقة المازري والمشهور من المذهب : أنه لا قيام بالغبن ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وذهب العراقيون من أهل المذهب إلى القول الثاني ا هـ . فإنه أراد المشهور من القولين المحكيين في هذه الطريقة بدليل أنه .

                                                                                                                            قال قبل هذا الكلام : وهذه الطريقة أقرب إلى التحقيق ا هـ . وكما يفهم ذلك من كلام التوضيح ، ولو كان ذلك مراد ابن عبد السلام لنبه على أن تلك طريقة مخالفة لما ذكره ابن الحاجب ، وكذلك المصنف في التوضيح ، ولو فهم أنها طريقة مخالفة لما ذكره ابن الحاجب لنبه على ذلك كما نبه على طريقة ابن رشد فتأمله منصفا وحكاية المصنف للطريقتين الأخيرتين غير ظاهر ; لأن كلامه يقتضي أن الثانية منافية للثانية ، وليس كذلك بل هما متفقتان في هذا الوجه الذي يثبت فيه القيام بالغبن كما [ ص: 472 ] يظهر ذلك من كلام ابن رشد والمازري المتقدم نعم يتخالفان في الوجه الآخر فإن طريقة المازري تحكي الخلاف في القيام بالغبن ، وطريقة ابن رشد تحكي الاتفاق على أن ابن رشد لم ينف الخلاف مطلقا بل ذكر ذلك عن بعض البغداديين إلا أنه لم يعتد بضعفه عنده فلا منافاة في الحقيقة ( الثالث : ) إذا علم هذا فما ذكره ابن عسكر في العمدة والإرشاد من تشهير القول بالقيام بالغبن مطلقا خلاف المعروف في المذهب ، ونص العمدة : ومن باع ، أو ابتاع فغبن غبنا فاحشا ثبت له الخيار على المشهور وقال جماعة من الشيوخ : إن كان بصيرا بقيمة المبيع فلا خيار له ، وقال بعضهم : إن استسلم لبائعه ثبت له الخيار وإلا فلا ، ومثله ما حكاه في الذخيرة عن الطرطوشي ، ونصه : قال الطرطوشي مذهب مالك : الخيار فيما خرج عن المعتاد فتحصل من هذا أن القيام بالغبن في بيع الاستئمان والاسترسال هو المذهب ، وأنه لا قيام به في غيره إما اتفاقا ، أو على المشهور ، فلو قال المصنف : ولا بغبن ، ولو خالف العادة إلا المسترسل لكان مقتصرا على الراجح من المذهب والله أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع : ) قال ابن الحاجب بعد أن حكى ما تقدم : والغبن قيل الثلث وقيل ما خرج عن المعتاد .

                                                                                                                            قال ابن عبد السلام حيث يكون للمغبون الرجوع بالغبن إما في محل الوفاق ، أو في محل الخلاف فقيل قدر الغبن في حق البائع أن يبيع بما ينقص عن ثمن المثل الثلث فأكثر ، وفي حق المشتري أن تزيد على ثمن المثل قدر الثلث فأكثر ، وقيل لا يحد بالثلث ، ولا بغيره من الأجزاء سوى ما دلت العادة على أنه غبن وظاهر كلام المؤلف يعني ابن الحاجب أن هذين القولين في الغبن المتفق على اعتباره في المختلف في اعتباره ، وظاهر كلام غيره أن الغبن المتفق على اعتباره لا يوصل فيه إلى الثلث ، ولا إلى ما قاربه إذا خرج عن الثمن المعتاد في ذلك المبيع صح القيام به انتهى .

                                                                                                                            ونقله في التوضيح وزاد فقال : وقال ابن القصار : إذا زاد على الثلث ، فيكون قولا ثالثا انتهى .

                                                                                                                            ، وحكى ابن عرفة الثلاثة الأقوال ويظهر من كلام ابن عبد السلام والتوضيح ترجيح القول بأنه ما خرج عن المعتاد وصدر به في الشامل ، وعطف القولين الأخيرين بقيل فقال : والغبن ما خرج عن العادة ، وقيل : الثلث ، وقيل : ما زاد عليه انتهى .

                                                                                                                            وعلى أن ما يتغابن به الناس لا قيام به كما تقدم في كلام التوضيح وصرح به في الجواهر فقال : إذا قلنا بإثبات الخيار بالغبن المتفاحش ، فقد اختلف الأصحاب في تقديره فمنهم من حده بالثلث فأكثر ، ومنهم من قال : لا حد له ، وإنما المعتبر فيه العوائد بين التجار فما علم أنه من التغابن الذي يكثر وقوعه بينهم ويختلفون فيه فلا مقال فيه للمغبون باتفاق ، وما خرج عن المعتاد فالمغبون فيه بالخيار ( الخامس : ) مما اتفق فيه على القيام بالغبن ما باعه الإنسان عن غيره في بيع ، أو شراء من وكيل ، أو وصي إذا باع ما لا يتغابن به الناس أنه مردود ، وكان أبو بكر الأبهري وأصحابه يذهبون إلى أن ما لا يتغابن بمثله هو الثلث فأكثر من قيمة المبيع ، وما كان دون ذلك لم يرد فيه البيع إذا لم يقصد إليه ويمضى فيه اجتهاد الوصي والوكيل وأشباههما ، ثم قال ابن عرفة : وظاهر قول أبي عمران قدر الغبن في بيع الوصي والوكيل كقدره في بيع من باع ملك نفسه ، وكان بعض من لقيناه ينكر ذلك ، ويقول غبن الوصي والوكيل ما نقص عن القيمة نقصا بينا ، وإن لم يبلغ الثلث ، وهو صواب ; لأنه مقتضى الرواية في المدونة وغيرها كقولها إذا باع الوكيل ، أو ابتاع بما لا يشبه من الثمن لم يلزمك .

                                                                                                                            ( السادس : ) إذا قلنا بالقيام بالغبن في مسألة بيع الوصي والوكيل وغيره ، فهل للقائم نقض البيع ، أو المطالبة بتكميل الثمن ، وكيف لو تصرف المبتاع في ذلك ببيع سئل ابن رشد عن يتيم باع عليه وصيه حصته من عقار بموجب بيعه لشريكه فكمل للشريك جميع العقار ، ثم باع الشريك نصف جميع العقار ، ثم رشد اليتيم فأثبت أن عقاره [ ص: 473 ] يوم بيعه يساوي أمثال ثمنه فأراد نقض بيعه بذلك في جميع ما بيع عليه والشفعة ممن باع منه شريكه فأفتى بأن له نقض البيع فيما هو قائم بيد المبتاع من الوصي ، وهو نصف حصته لا فيما باعه المبتاع من ذلك فإنه يمضى وله فيه فضل قيمته على ثمنه يوم بيعه لفوته بالبيع ; لأنه بيع جائز فيه غبن على من بيع عليه يرد ما دام قائما على اختلاف فيه ، فقد قيل للمبتاع أن يوفي تمام القيمة ، ولا يرد البيع ، وإن لم يفت ، وقيل يمضى له بقدر الثمن من قيمته يوم البيع وهذه الأقوال قائمة من العتبية لابن القاسم وسحنون في سماعه من أبي زيد ولها في المدونة نظائر ، والنصف المردود على اليتيم حصته إنما ترجع إليه بملك مستأنف لا على الملك الأول فلا شفعة له على المبتاع الثاني لا في بقية حصته .

                                                                                                                            ولا فيما ابتاعه من شركاء اليتيم ، ولا له على اليتيم شفعة في الحصة المردودة ; إذ ليس ببيع محض ; لأن البيع المحض ما تواطأ عليه المتبايعان ، والمأخوذ منه الحصة هنا مغلوب على إخراجها من يده ، فهو بيع في حق اليتيم لأخذه له باختياره ، ونقض بيع في حق المشتري الأول ; لأنه مغلوب على ذلك ، والقول بأن بيع الغبن يفيته البيع واضح ; لأنه إذا فات البيع الفاسد ، وقد قيل : إنه ليس ببيع فأحرى بيع الغبن ; لأنه لا ينتقض إلا باختيار أحدهما ، والبيع الفاسد ينتقض جبرا ، وهذه مثل مسألة المدونة في بيع المرابحة فيمن أخطأ فباع سلعة مرابحة بأقل من ثمنها فقام على المبتاع ، قال فيها : له الرجوع في سلعته إن لم تفت ويفيتها ما يفيت البيع الفاسد ، ولا فرق في الغبن عن الأيتام فيما باعه الوصي وبين الغبن على أحد فيما باعه لنفسه فيما يوجبه الحكم في ذلك على القول بوجوب الرجوع بالغبن انتهى مختصرا باختصار ابن عرفة وإن خالف في بعض الألفاظ وتحصل من هذا أن الراجح من الأقوال أن للقائم بالغبن نقض البيع في قيام السلعة ، وأما في فواتها فلا نقض وأن القيام بالغبن يفوت بالبيع ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( السابع : ) في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي يخدع في البيوع إن بايعت فقل : لا خلابة فكان إذا بايع يقول : لا خيابة بالياء موضع اللام ، وسيأتي الكلام عليه في التنبيه الذي بعده زاد بعض رواة الحديث في غير الصحيح وأنت في كل سلعة ابتعتها على خيار ثلاث ليال ، وقد تجاذب الحديث من قال بالقيام بالغبن ومن لم يقل به فقال البغداديون : قد جعل الخيار للمغبون ، وقال غيرهم : لم يجعل له الخيار إلا بشرط ، ولا حجة لعدم القيام بالغبن ( الثامن : ) .

                                                                                                                            قال الأبي : وانظر لو قلت هذه الكلمة اليوم في العقد ، ثم ظهر العيب فقال أحمد بن حنبل : يوجب القيام بالغبن ، وقال الأكثرون : لا يوجب قولها قياما بالغبن ، ثم اختلفوا فقيل : لأنها خاصة بالرجل ، وقيل : لأنه أمره أن يشترط ويصدر الشرط بهذه الكلمة حضا على النصيحة فإنه روي أنه قال له قل لا خلابة واشترط الخيار ثلاثة أيام ، وقيل : أمره بذلك ليعلم من يبيع منه أنه لا بصيرة له فينظر له كما ينظر لنفسه انتهى .

                                                                                                                            والخلابة بكسر المعجمة وتخفيف اللام والباء الموحدة الخديعة ، وقوله في الحديث : فكان إذا بايع قال لا خيابة بالياء التحتية ; لأنه كان ألثغ يخرج اللام من مخرج الياء ، ورواه بعضهم بالنون ، وهو تصحيف ، وفي بعض روايات مسلم لا خذابة بالذال المعجمة قال القاضي عياض والصواب الأول : وهذا الرجل اسمه حبان بالحاء والباء الموحدة والد يحيى وواسع بن حبان كان قد بلغ مائة وثلاثين سنة شج في بعض المغازي معه - صلى الله عليه وسلم - فأصابته مأمومة تغير منها لسانه وعقله والله أعلم

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية