الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - تجديد التاريخ

              الواقعة (الحادثة التاريخية) الواحدة يمكن في كثير من الأحوال أن تكتب -كما يؤكد فروخ- عددا من المرات على أوجه مختلفة.. يدون المؤرخ عادة كل واقعة على وجه يستند فيه إلى ما يعرف من التفاصيل المتصلة بتلك الواقعة، وإلى ما يدرك من أسباب حدوثها. فإذا اتفق أن عرف ذلك المؤرخ فيما بعد، عددا جديدا من التفاصيل، أو أدرك عددا جديدا من الأسباب، وجب عليه حينئذ أن يعيد كتابة هـذه الواقعة من جديد، حتى يدخل تلك التفاصيل الجديدة وتلك الأسباب التي أدركها استئنافا في الإطار التاريخي، الذي يجعل هـذه الواقعة نفسها أوضح في السرد، وألصق بالمنطق، وأقرب إلى الواقع؛ إلى الذي جرى في التاريخ [1] .

              وفي رواية التاريخ طرفان:

              السرد القصصي، والمعالجة المعللة (المفلسفة بالأسباب والنتائج) .

              أما التاريخ الذي يجري في السرد القصصي (وهو ليس بتاريخ على الحقيقة) كقصة عنتر، ومغامرات الأبطال الخرافيين، والتاريخ الوطني للأطفال، مما يراد به تسلية عوام الناس أو تحميسهم أو تنشئتهم تنشئة معينة بضرب الأمثال، فيرى عمر، رحمه الله، أن يكتب مرة واحدة كتابة عاطفية منمقة، ثم يبقى على صورته هـذه أبدا «إلا ما يضاف إليه بين الحين والحين [ ص: 134 ]

              من زيادة في المبالغـات، أو زيادة الألفـاظ، لزيادة التأثيـر في العواطف، أو ما ينقص أحيانا بالنسيان، أو ما يبدل فيه تبعا لرغبة السامعين، أو مداراة للحاكمين، أو تقربا لذوي البأس والوجاهة ممن يظهرون بين الحين والحين في ميدان الحياة السياسية أو على مسرح الحياة الاجتماعية».

              وأما الطرف الثاني من رواية التاريخ، فهو التاريخ الذي يجري في المعالجة المعللة، وهو المقصود ببحث «تجديد التاريخ» وهو مجموع الوقائع التي يجب أن نعيد كتابتها مرة بعد مرة كلما وصل إلينا تفاصيل جديدة منها أو انكشف لنا أسباب مستأنف لها [2]

              - مسوغات تجديد التاريخ

              وتتعدد المسوغات لتجديد التاريخ عند عمر فروخ ، رحمه الله، إلا أن من أهمها أن الوقائع تتوالى بتوالي الأيام، فكل يوم جديد يأتي بوقائع جديدة يجب أن تدون وتضاف إلى سلسلة التاريخ التي لا تنتهي، ثم إن عددا من الوقائع تنكشف لها مع الأيام تفاصيل جديدة. وتختلف الأحوال باختلاف الأزمان، فيحتاج المؤرخ إلى عرض الوقائع القديمة عرضا جديدا، لفهم تلك الأحوال فهما أدق وأصح وأحسن [3] .

              ومنها أنه تحدث في العالم أحداث من الحروب العامة والثورات المحلية والنهضات الاجتماعية والكشوف العلمية، فتبرز في الحياة العامة عناصر [ ص: 135 ]

              جديدة من السياسة والاقتصاد والدين، ومن الحرية أو الاستبداد، ومن الانتصار أو الهزيمة، ومن الرقي أو التقهقر، وسوى ذلك، فيرجع نفر من المؤرخين إلى التاريخ، يريدون أن يفسروا به ما حدث من التغيير في بيئتهم الاجتماعية الخاصة أو في الحياة العالمية العامة، لاعتقادهم أن هـذا الذي حدث لم يكن ابن ساعته، ولكنه نتيجة أسباب كثيرة ونهاية تطور طويل؛ فيعيدون تدوين عدد من فصول التاريخ من جديد، ليؤكدوا جانب العوامل الجديدة التي كانت قد برزت في بيئة من البيئات الاجتماعية أو في الحياة العامة منذ زمن قريب [4] .

              ويربط عمر فروخ ، رحمه الله، تجديد التاريخ بالعـدالة (بالعلـم والأمانة والخلق) إذ ليس تجـديد التاريخ إلغاء لما سبق من الوقائع التي يخالف بعض الناس فيها بعضا من الرأي السـياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الشخصي. فبعض الأمراء أو الثوار أو السياسيين المستبدين إذا هـم وصلوا إلى الحكم أشاروا بطمس آثار من سبقهم وإبراز آثارهم هـم. وربما رجع بعض هـؤلاء إلى التاريخ المدون فأمر بتبديله أو تشويهه، حتى يكون اسمه هـو بارزا بين الأسمـاء، أو عاليا فوق الأسماء، وربـما كان بعض هـؤلاء مخلصا فاعتقد أن الحياة الماضية كانت خاطـئة، فعلى المجموع أن يبدأ حياة جديدة بتاريخ جديد. [ ص: 136 ]

              وفي مثل هـذه الحال الثانية يقع التنبيه على ما حسن من الحياة الماضية «والحث على الاحتفاظ به»، والتنبيه على ما ساء منها «والحث على إهماله وتناسيه» [5] .

              ثم إن عمر فروخ ، رحمه الله، أدرك أثر الكوارث التي نزلت بالمسلمين منذ بدء حركة الاستعمار، فدعا إلى تجديد كتابة تاريخنا الحديث، وعزا ذلك إلى سببين:

              الأول: أن المستعمر كتب لنا تاريخا مصنوعا، يبرز فضل استعماره بلادنا، فجاء كثير منا فاعتمدوا هـذا التاريخ المصنوع، عفوا وغفلة أو قصدا واستنامة، فأصبح هـذا التاريخ يمثل جانبا من ماضينا الضعيف المخزي، ثـم لا يدل على وعينا الحاضر ولا يوافق أملنا في الوثوب إلى مستقبل أليق بنا.

              والآخر: حاجتنا إلى أن نعرف تلك العوامل التي جعلت منا في الماضي القريب شعوبا تخضع للاستعمار والاستعباد، ثم تصبر عليه هـذه المدة الطويلة [6] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية