الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - التصوف في الإسلام

              صنف عمر فروخ ، رحمه الله، كتاب (التصوف في الإسلام) فعرض لحسناته وسيئاته، واستعرض نشأة التصوف وتطوره في الإسلام، منبها على مخالفة التصوف «المتطرف» للإسلام.. كما عرض له استطرادا في بعض كتبه الأخرى.. فقد رفض العبادة الباطنية، وبين أن الإسلام جاء واضحا، وغير باطني، أو استسراري، وهو دين يعنى بالعملي وما هـو دفع للحياة اليومية باتجاه الأسمى والخلقي، وليس طوايا وخبايا، مؤكدا أن «الأمم القوية الناهضة كالأجسام الصحيحة المتسامية لا تألف الإيغال في التصوف » [1]

              ويعجب من حجة الإسلام «أبي حامد الغزالي» ، الذي شهد القدس تسقط في يدي الإفرنج الصليبيين، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يشر إلى هـذا الحادث العظيم، ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنصرة إخوانهم في الشام لنفر مئات الألوف منهم للجهاد، ولوفروا على العرب والإسـلام عصورا مملوءة بالكفاح وقرونا زاخرة بالجهل والدمار، وما غفلة «الغزالي» عن ذلك إلا لأنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفيا [2] . [ ص: 89 ]

              وكذلك يعجب من « عمر بن الفارض »، « ومحيي الدين بن عربي » اللذين عاشا في إبان الحروب الصليبية، ولم يرد لتلك الحروب ذكر في آثارهما، فبينما كان الإفرنج يغيرون على المنصورة في مصر ، تنادى المتصوفة ليقرأوا رسالة القشيري ، ويتجادلوا في كرامات الأولياء،ويقول: «ويزعم الصوفية أن لهم كرامات، ولكنهم لم يظهروا هـذ الكرامات للدفاع عن دينهم وأوطانهم... فإذا كان لهؤلاء القوم مثل هـذه الكرامات –ومثل هـذه لم يكن- فلقد كان من الجناية على الدين نفسه أن يسكتوا عن الفرنج الصليبيين في بلاد المسلمين، وعن غيرهم من المغيرين الظالمين» [3]

              ويرى أن بعض أنواع التصوف وسيلة من وسائل الاستعمار، ويقول، بعد أن نظر في تعليل المتصوفة سكوتهم ورضاهم بما نزل بالمسلمين من مصائب بأنها عقاب من الله للمذنبين من خلقه، فإذا كان الله قد سلط على قوم ظالما فليس لأحد أن يقوم إرادة الله أو يتأفف منها: [ ص: 90 ]

              «ولا ريب في أن الأوربيين قد عرفوا ذلك واستغلوه في أعمالهم الاستعمارية. ذكر مصطفى كامل بطل الوطنية المصرية في كتابه (المسألة الشرقية) قصة غريبة في أذن القارئ العادي، قال:

              «ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسا للقيروان (في تونس ) أن رجلا فرنساويا دخل في الإسلام، وسمى نفسه سيد أحمد عبد الهادي ، واجتهد في تحصيل الشريعة حتى وصل إلى درجة عالية، وعين إماما لمسجد كبير في القيروان . فلما اقترب الجنود الفرنساوية من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاءوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد يعتقدون فيه، فدخل (سيد أحمد) الضريح، ثم خرج مهولا لهم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم، لأن وقوع البلاد صار محتما، فاتبع القوم البسطاء قوله ولم يدافعوا عن مدينة القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنسيون آمنين في 26 أكتوبر عام 1881م».

              من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين يغدقون على بعض أصحاب الطرق الصوفية الجاه والمال، فرب مفوض سام لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقية من وجوه البلاد وقد ضربوا إليه من أقصى منطقة انتدابة، لضيق الوقت، أو لقلة المبالاة؛ ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقة من حلقات الذكر، ويقضي هـناك زيارة سياسية تستغرق الساعات: أليس التصوف –الذي على هـذا الشكل– يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟ » [4] .

              ويشير عمر فروخ ، رحمه الله، إلى كثرة التآليف الصوفية في أمم أوربا، على نسبة اهتمامها بالاستعمار، ويرجع ذلك إلى هـدفين:

              أولهما: تثقيف قومهم بأسلوب من أساليب الاستعمار.

              ثانيهما: إغراق المثقفين من سكان الشرق بكتب الصوفية، لصرفهم عن عرين العزة وميادين الكفاح الوطني. [ ص: 91 ]

              ويقول: «وكلما بحثت عن أحد المؤلفين (الأوربيين) في الصوفية رأيته ينتمي إلى دوائر في بلاده تهتم بالاستعمار، مباشرة أو غير مباشرة» [5] ، ويضرب مثلا على ذلك « لويس ماسينيون » الذي أصبح مستشارا ثقافيا في وزارة الخارجية الفرنسية [6] .

              - تطور التصوف من الزاهدين إلى المجذوبين

              تناول عمر فروخ ، رحمه الله، مرحلة رئيسة من تاريخ التصوف في الإسلام: من الزهد الأول إلى دور المجاذيب [7] ، منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم إلى أواسط القرن العاشر للهجرة، وأوضح أن هـذه الحقبة تنفصل من الدهر خمسة أدوار غير متساوية:

              - الدور الأول: دور التسامي عن الحياة المادية، وهو يتناول القرنين الأولين للهجرة على وجه التقريب، وقد استثنى منه -خلافا للشعراني - كبار الصحابة والتابعين، والأئمة كعبد الرحمن الأوزاعي ، ومالك بن أنس ، وأبي حنيفة ، والشافعي .. وأندادهم، ويقول فيهم: [ ص: 92 ] «هؤلاء لم يكونوا صوفيين، بل لم يكونوا زاهدين، بالمعنى المتواضع عليه. ولكنهم لما ملكوا الدنيا من حافتيها في العلم والسيادة، وعظم شأنهم في بناء الأمة الإسلامية، هـانت عندهم الحياة المادية. فعثمان بن عفان كان من كبار الأغنياء، ولم تطل خلافة أحد من الخلفاء الراشدين كما طالت خلافته. ولكنه انصرف عن الدنيا لأنه شغل عنها بما هـو أعظم منها، من القيام على الناس بأمر دينهم ودنياهم... مثل هـذا أيضا كان شأن العلماء في هـذا الدور من أمثال عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وسفيان بن سعيد الثوري ، والحسن البصري ، ومالك بن أنس ، وأبي حنيفة »



              [8] .

              وخلص في بحثه عن هـذا الدور إلى أن خصائصه زهد خالص، نبت في البيئة الإسلامية، ولم يكن بحاجة إلى التأثر بعنصر أجنبي ما، على الرغم من أن نفرا من رجاله لم يكونوا عربا



              [9] .

              - الدور الثاني: دور التشبه بالسابقين، والقصد إلى الزهد والتقشف. ويمتد هـذا الدور نحو قرن ونصف قرن من الدهر؛ من مطلع القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع للهجرة، ويأتي على رأس هـذا الدور: أبو سليمان الداراني ، وبشر الحافي ، والحارث المحاسبي ، وذو النون المصري ، والجنيد . وأشار إلى أن هـذا الدور يمتاز – فوق ما اتصف به من الإغراق في الزهد والتقشف- بتسرب عدد من العناصر الأجنبية كالكلام على الفناء



              [10] .

              - الدور الثالث: دور الخروج من الإغراق في الزهد والتقشف إلى «الكلام» وإلى التحرر من التكليف في العبادة، وادعاء الخيالات الصوفية.. [ ص: 93 ]

              ويملأ هـذا الدور القرن الرابع الهجري، وأبرز رموزه: الحلاج ، وأبو بكر الواسطي ، والشبلي ، والنفري ، والسلمي [11]

              - الدور الرابع : دور تنظيم التصوف وادعاء الكرامات وتبلور الطرق الصوفية. يبدأ هـذا الدور من أواسط القرن الخامس الهجري، ومن أشهر رموز هـذا الدور: أبو حامد الغزالي ، وأبو يعقوب يوسف بن أيوب الهمذاني ، وعبد القادر الجيلاني ، والرفاعي ، والسهر وردي ، وعمر بن الفارض ، ومحيي الدين بن عربي ، والبدوي ، والنقشبندي [12]

              - دور المجذوبين: دور المبالغات في ادعاء الكرامات؛ مبينا أنها وروايتها لا تدل على حالة طبيعية في الراوين على الأخص، ولا في المتظاهرين بها. إنها بلا ريب حالة مرضية ذات عوامل معينة، وليست حالة نفسية فحسب، وقد تكون هـذه الأحوال كثرت بين الصوفية في القرنين التاسع والعاشر للهجرة، وضرب بعض الأمثلة ببعض الأعمال التي كان يأتي بها المجاذيب ويتنـزه عنها العقلاء [13] [ ص: 94 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية