الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5029 ص: فإن قال قائل: لا يستأنى برء الجرح، وخالف ما ذكرنا في ذلك من الآثار; فكفى به جهلا في خلافه كل من تقدمه من العلماء، وعلى ذلك فإنا نفسد قوله من طريق النظر; وذلك أنا لو رأينا رجلا قطع يد رجل خطأ ، فبرأ منها وجبت عليه دية اليد، ولو مات منها وجبت عليه دية النفس ولم يجب عليه في اليد شيء، ودخل ما كان يجب في اليد فيما وجب في النفس، فصار الجاني كمن قتل وليس كمن قطع، وصارت اليد لا يجب لها حكم إلا والنفس قائمة، ولا يجب لها حكم إذا كانت النفس تالفة، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك إذا قطع يده عمدا، فإن برأ فالحكم لليد وفيها القود، وإن مات منها فالحكم للنفس، وفيها القصاص لا في اليد، قياسا ونظرا على ما ذكرنا من حكم الخطأ. .

                                                ويدخل أيضا على من يقول أن الجاني يقتل كما قتل أن يقول: إذا رماه بسهم فقتله أن ينصب الرامي فيرميه حتى يقتله، وقد نهى رسول الله -عليه السلام- عن صبر ذي [ ص: 287 ] الروح، فلا ينبغي أن يصبر أحد; لنهي رسول الله -عليه السلام- ولكن يقتل قتلا لا يكون معه شيء من النهي.

                                                ألا ترى أن رجلا لو نكح رجلا فقتله بذلك، أنه لا يجب للولي أن يفعل بالقاتل كما فعل، ولكن يجب له أن يقتله؛ لأن نكاحه إياه حرام عليه، فكذلك صبره إياه فيما وصفنا حرام عليه، ولكن له قتله كما يقتل من حل دمه بردة أو بغيرها.

                                                هذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- غير أن أبا حنيفة لا يوجب القود على من قتل بحجر، وسنبين قوله هذا والحجة له في باب شبه العمد إن شاء الله تعالى.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فإن قال قائل من أهل المقالة الأولى: لا ينتظر برء الجرح، وخالف فيما ذهب إليه من ذلك الأحاديث المذكورة، فكفى به جهلا في ذلك، حيث خالف كل من تقدمه من العلماء على ذلك.

                                                قوله: "وعلى ذلك" أي وعلى خلاف هذا القائل نفسد قوله من طريق النظر والقياس، والحاصل أن هذا القائل إذا ذهب إلى ما قاله من القول المذكور، فقد خالف فيه العلماء من الكوفيين والمدنيين، وأتى بقول يبطله ويفسده عليه النظر الصحيح، ثم بين ذلك بقوله: "وذلك أنا لو رأينا ...." إلى آخره. وهو ظاهر.

                                                قوله: "ويدخل أيضا .... إلى آخره" إشارة إلى بيان فساد يلزم من يقول: إن الجاني يقتل كما قتل.

                                                واعترض ابن حزم في قوله: "إذا رماه بسهم.... إلى آخره" فقال: يطعن بسهم مثله في الموضع الذي صادفه فيه سهمه ظلما حتى يموت، وكذلك يجاف بجائفة يوقن أنه يموت منها.

                                                [ ص: 288 ] قلت: لم يرد ابن حزم بهذا الكلام إلا نزاعا، فإنه إذا لم يمت بذلك الطعن أفيطعن ثانيا وثالثا إلى أن يموت؟ فهذا على عدم المماثلة، وكذلك الكلام فيما إذا أجاف جائفة.

                                                وقال ابن حزم: نعكس عليهم هذا السؤال فنقول لهم: إن ضرب بالسيف عنقه فلم يقطع أو قطع قليلا وأعيد عليه مرارا، وهذا أشد مما قلتم.

                                                قلت: هذا أمر نادر، والنادر لا حكم له; لأن الغالب أن السيف لا يلبث، فافهم.

                                                واعترض أيضا على قوله: ألا ترى أنه لو نكح رجلا .... إلى آخره. وقال: يستدبر القاتل بوتد حتى يموت; لأن المثل محرم عليه.

                                                قلت: لا مماثلة هاهنا أصلا، وهو معلوم بالحس، ولأن فيه زيادة تعذيب فوق القتل بالسيف، وهو لا يجب عليه إلا إزهاق روحه فقط دون تعذيبه، والسيف فيه الكفاية. والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية