الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5070 ص: فمما دل على هذا الذي رويناه عن جابر وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: "أنه كان بعد ما في حديث حرام بن محيصة ، من قوله: "فقضى رسول الله -عليه السلام- أن على أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل، وأن على أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار" فجعل النبي -عليه السلام- الماشية إذا كان على ربها حفظها مضمونا ما أصابت، وإذا لم يكن عليه حفظها غير مضمون عليه ما أصابت، فأوجب في ذلك ضمان ما أصابت المنفلتة بالليل إذ كان على صاحبها حفظها.

                                                ثم قال في حديث العجماء: " جرحها جبار" ، فكان ما أصابت في انفلاتها جبارا، فصارت كما لو هدمت حائطا أو قتلت رجلا، لم يضمن صاحبها شيئا، وإن كان عليه حفظها حتى لا تنفلت إذا كانت مما يخاف عليه مثل هذا، فلما لم يراع النبي -عليه السلام- في هذا الحديث وجوب حفظها عليه، وراعى انفلاتها فلم يضمنه فيها شيئا مما أصابت ليلا أو نهارا رجع الأمر في ذلك إلى استواء الليل والنهار، فثبت بذلك أن ما أصابت ليلا أو نهارا إذا كانت منفلتة فلا ضمان على ربها فيه، وإن كان هو سيبها فأصابت شيئا في فورها أو في سيبها ضمن ذلك كله، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمهم الله-، وهو أولى ما حملت عليه هذه الآثار؛ لما ذكرنا وبينا.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي فمن الذي دل على هذا، وأشار به إلى ما ذكره من قوله: "فحكم النبي -عليه السلام-" إلى قوله: "فنسخت ما قبلها".

                                                [ ص: 411 ] وقوله: "الذي رويناه" فاعل لقوله: "دل".

                                                وقوله: "أنه كان" بدل من قوله: "الذي".

                                                قوله: "إذ كان" أي لأجل كون حفظها غير مضمون عليه.

                                                قوله: "فصارت" أي العجماء "كما لو هدمت حائطا لرجل أو قتلت رجلا" فإن صاحبها لم يضمن شيئا.

                                                قوله: "وهو أولى ما حملت عليه" أي الذي ذهب إليه أبو حنيفة وصاحباه أولى ما حملت عليه "الآثار" أي الأحاديث المذكورة، وهي حديث حرام بن محيصة وحديث أبي هريرة وجابر - رضي الله عنهم -.

                                                فإن قيل: قال أبو عمر: جعلت الحنفية حديث: "جرح العجماء جبار" معارضا لحديث البراء، وليس كما زعموا وذهبوا إليه; لأن التعارض في الآثار إنما يصح إذا لم يمكن استعمال أحدهما إلا بنفي الآخر، وحديث: "العجماء جبار" عام قد خص بحديث البراء، وهذا من باب العموم والخصوص والمجمل والمفسر.

                                                وقال البيهقي في "الخلافيات" ما ملخصه: إن الحنفية قالوا: حديث البراء منسوخ بحديث: "العجماء جبار".

                                                والجواب فيما ذكره الشافعي، وهو فيما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، ثنا الربيع قال: قال الشافعي: فأخذنا به -يعني بحديث البراء بن عازب- لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله، ولا يخالفنا هذا الحديث -يعني حديث: "العجماء جبار"- وجملة من الكلام العام المخرج الذي يراد به الخاص، وقضاء رسول الله -عليه السلام- في ما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال - دليل على ما إذا أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار، وفي حال غير جبار.

                                                وفي هذا دليل على أنه إذا كان على أهل العجماء حفظها ضمنوا ما أصابت، وإذا لم يكن عليهم حفظها لم يضمنوا شيئا مما أصابت، فيضمن أهل الماشية بالليل إذا أصابت من زرع، ولا يضمنونه بالنهار.

                                                [ ص: 412 ] قلت: أما قول أبي عمر في نقله عن الحنفية أنهم جعلوا كذا وكذا فغير صحيح؛ لأنهم لم يدعوا تعارضا بين الحديثين وإنما ادعوا نسخا على ما ذكره، فإذا كان حديث: "العجماء جبار" ناسخا، وثبت ذلك، لا يبقى فيه مجال أن يقال بالعموم والخصوص، والعموم والخصوص بين الحديثين المعمول بهما، وهاهنا حديث البراء منسوخ، فكيف يقال: إنه مخصص للحديث الآخر؟! وكيفية ثبوت النسخ قد ذكرناها آنفا، وهذا يقع جوابا أيضا عما نقله البيهقي عن الشافعي من قوله: وجملة من الكلام المخرج الذي يراد به الخاص .... إلى آخره.

                                                وأما قوله: "لثبوته واتصاله ...." إلى آخره. فغير مسلم; لأنا قد بينا علة الحديث فيما مضى من أنه مقطوع عند أكثر الأثبات من أصحاب الزهري، وأنه لا تقوم به حجة عنده، فكيف يحتج به على خصمه؟! فافهم.




                                                الخدمات العلمية