الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                5922 ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى هذه الآثار وكرهوا بها إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء ، ومجاهدا ، ومسروقا ، والشعبي ، وطاوس بن كيسان ، والحسن ، ومحمد بن سيرين ، والقاسم بن محمد ، وأبا حنيفة ، ومالكا ، والشافعي ، وزفر؛ فإنهم قالوا: تكره إجارة الأرض بجزء مما يخرج منها، كالثلث والربع.

                                                اعلم أن هاهنا مذاهب للناس، فقال أبو عمر: لا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام، مأكولا كان أو مشروبا على حال؛ لأن ذلك في معنى بيع الطعام بالطعام نسيئة، وكذلك لا يجوز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها وإن لم يكن طعاما مأكولا ولا مشروبا سوى الخشب، والقصب، والحطب؛ لأنه في معنى [المزابنة].

                                                هذا هو المحفوظ عن مالك وأصحابه، وذكر ابن سحنون عن المغيرة بن عبد الرحمن: أنه لا بأس بكراء الأرض بطعام لا يخرج منها، وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة يقول: لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل، خرج منها أو لم يخرج منها، قال: وكان ابن نافع يقول: لا بأس أن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره، خرج منها أو لم يخرج منها، ما عدا الحنطة وأخواتها فإنها المحاقلة.

                                                وأجمع مالك وأصحابه كلهم أن الأرض لا يجوز كراؤها على بعض ما يخرج منها مما يزرع فيها ثلثا كان أو ربعا، أو جزافا كان؛ لأنه غرر ومحاقلة.

                                                [ ص: 304 ] وقال جماعة من أهل العلم: معنى المحاقلة: دفع الأرض على الثلث والربع، وعلى جزء مما يخرج منها؛ لأنه مجهول ولا يجوز الكراء إلا معلوما.

                                                قالوا: وكراء الأرض بالذهب والورق وبالعروض كلها الطعام وغيره مما ينبت في الأرض وما لا ينبت فيها جائز، كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد، هذا كله قول الشافعي ومن تابعه.

                                                وهو قول أبي حنيفة وداود، وإليه ذهب محمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك .

                                                وقال الليث بن سعد ، والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن حي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد بن حنبل: لا بأس أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع.

                                                وقال القاضي عياض: اختلف الناس في منع كراء الأرض على الإطلاق، فقال به طاوس والحسن؛ أخذا بظاهر النهي عن المحاقلة، وفسرها الرازي بكراء الأرض، فأطلق.

                                                وقال جمهور العلماء: إنما يمنع على التقييد دون الإطلاق، واختلفوا في ذلك، فعندنا: إن كراها بالجزء لا يجوز من غير خلاف، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال بعض الصحابة وبعض الفقهاء بجوازه تشبيها بالقراض، وأما كراؤها بالطعام مضمونا في الذمة فأجازه أبو حنيفة والشافعي .

                                                وقال ابن حزم في "المحلى": لا يرى عطاء ، ومجاهد ، ومسروق ، والشعبي ، وطاوس ، والحسن ، وابن سيرين والقاسم بن محمد كراء الأرض أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك، وقال أيضا: وممن أجاز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها: أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وعثمان ، وابن عمر ، وسعد ، وابن مسعود ، وخباب ، وحذيفة ، ومعاذ - رضي الله عنهم -.

                                                وهو قول عبد الرحمن بن يزيد بن موسى ، وابن أبي ليلى ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وابن المنذر .

                                                [ ص: 305 ] واختلف فيها عن الليث، وأجازها أحمد ، وإسحاق، إلا أنهما قالا: إن البذر يكون من عند صاحب الأرض، وإنما على العامل البقر والآلة والعمل.

                                                وأجازها بعض أصحاب الحديث ولم يبال ممن جعل البذر منهما.

                                                وقال أيضا: واتفق أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وزفر ، وأبو سليمان، على جواز كراء الأرض، واختلفوا فيه أيضا وفي المزارعة، فأجاز كل من ذكرنا -حاشى مالكا وحده- كراء الأرض بالذهب والفضة، وبالطعام المسمى كيله في الذمة ما لم يشترط أن يكون مما تخرجه الأرض، وبالعروض كلها.

                                                وقال مالك بمثل ذلك إلا أنه لم يجز كراء الأرض بشيء مما يخرج منها، ولا بشيء من الطعام وإن لم يخرج منها كالعسل والملح والمري، ونحو ذلك.

                                                وأجاز كراءها بالخشب والحطب وإن كانا يخرجان منها.

                                                ومنع أبو حنيفة وزفر إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه، وقال مالك: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن يكون أرض شجر، فيكون مقدار البياض من الأرض مقدار ثلث الجميع، ويكون السواد مقدار الثلثين من الجميع فيجوز حينئذ أن يعطى بالثلث أو الربع أو النصف على ما يعطى به ذلك السواد.

                                                وقال الشافعي: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج إلا أن تكون في خلال الشجر لا يمكن سقيها ولا عملها إلا بعمل الشجر وحفرها وسقيها، فيجوز حينئذ إعطاؤها بثلث أو ربع أو نصف على ما تعطي به الشجر، وقال أبو بكر بن داود: لا يجوز إعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها، إلا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة، فيجوز ذلك حينئذ، والله أعلم.




                                                الخدمات العلمية