الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6419 ص: قال أبو جعفر -رحمه الله-: فذهب قوم إلى أن الخمر من التمر ومن العنب جميعا، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

                                                التالي السابق


                                                ش: أراد بالقوم هؤلاء: فقهاء أهل المدينة وأهل الحجاز، ولكن بينهم أيضا خلاف.

                                                فذهبت طائفة إلى أن كل شيء أسكر فهو حرام شربه وملكه وبيعه وشراؤه واستعماله على كل أحد، وسواء كان من العنب أو التمر أو التين أو الحنطة أو الشعير أو نحو ذلك، وسواء طبخ أو لم يطبخ.

                                                وهو قول الشافعي ، ومالك ، وأحمد أيضا، وإليه ذهب أهل الظاهر أيضا.

                                                وذهبت طائفة إلى أن الرطب والبسر إذا خلطا فشرابهما خمر محرمة، وكذلك التمر والبسر إذا خلطا.

                                                وذهبت طائفة إلى أن عصير العنب إذا أسكر ونقيع الزبيب إذ أسكر ولم يطبخا هو الخمر المحرمة، قليلها وكثيرها، وما عدا ذلك حلال ما لم يسكر منه.

                                                وذهبت طائفة إلى أن كل ما عصر من العنب ونبيذ التمر ونبيذ الزبيب والرطب والبسر والزهو ولم يطبخ فهو خمر محرمة قليلها وكثيرها، فإن طبخ عصير العنب حتى يذهب ثلثاه وطبخ سائر ما ذكرنا فهو حلال أسكر أو لم يسكر، إلا أن السكر منه حرام.

                                                وكل نبيذ وعصير ما سوى ذلك مما ذكرنا فحلال أسكر أو لم يسكر، طبخ أو لم يطبخ، والسكر أيضا منه ليس حراما.

                                                وقال ابن حزم: وفي هذا الباب اختلاف قديم وحديث بعد صحة الإجماع على تحريم الخمر قليلها وكثيرها.

                                                [ ص: 38 ] وقال ابن قتيبة في كتاب "الأشربة": حرم الله -عز وجل- بالكتاب الخمر، وبالسنة السكر، وعوضنا منها صنوف الشراب من اللبن والعسل، وحلال النبيذ، وليس في شيء مما وقع فيه الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الأشربة، وكيفية ما حل منها وما حرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول -عليه السلام- وتوافر الصحابة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم، حتى يحتاج ابن سيرين مع بارع علمه وثاقب فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ، حتى يقول عبيدة -وقد لحق خيار الصحابة وعلمائهم منهم علي وابن مسعود - رضي الله عنهما -: اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية: "أحدث الناس أشربة كثيرة ما في شراب منذ عشرين سنة إلا لبن أو ماء أو عسل". وإن شيئا وقع فيه الاختلاف في ذلك العصر بين أولئك الأئمة؛ لحري أن يشكل على من بعدهم، وتختلف فيه آراؤهم، ويكثر فيه تنازعهم.

                                                وقد أجمع الناس على تحريم الخمر إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم ممن لا يعبأ الله بهم؛ فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة، وإنما نهى الله -عز وجل- عن شربها تأديبا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض كقوله تعالى: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وقوله: واهجروهن في المضاجع واضربوهن وكقوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك وقالوا: لو أراد تحريما لقال: حرمت عليكم الخمر، كما قال: حرمت عليكم الميتة وليس للشغل بهؤلاء وجه، ولا يستبق الكلام بالحجج عليهم معنى؛ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على الإجماع.

                                                [ ص: 39 ] وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما عدا وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرا حتى يصير خلا، وأنها ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير، وإنما حرمت بغرض دخلها، فإذا زايلها ذلك الغرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا، كالمسك كان دما عبيطا دائما ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبا حلالا.




                                                الخدمات العلمية