في هذه السنة ، في ذي الحجة ، توفي الإمام ، أمير المؤمنين ، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر ، وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وعشرون يوما ، وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها القادر بالله الديلم والأتراك ، فلما وليها أعاد جدتها ، وجدد ناموسها ، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها . القادر بالله
وكان حليما ، كريما ، خيرا يحب الخير وأهله ، ويأمر به ، وينهى عن الشر ويبغض أهله ، وكان حسن الاعتقاد ، صنف فيه كتابا على مذهب السنة .
ولما توفي صلى عليه ابنه ، وكان القائم بأمر الله أبيض حسن الجسم ، كث اللحية ، طويلها ، يخضب ، وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور قبور الصالحين ، كقبر معروف وغيره ، وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق . القادر بالله
قال القاضي الحسين بن هارون : كان بالكرخ ملك ليتيم وكان له فيه قيمة جيدة ، فأرسل إلي ابن حاجب النعمان ، وهو حاجب القادر . يأمرني أن أفك عنه [ ص: 746 ] الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك ، فلم أفعل فأرسل يستدعيني ، فقلت لغلامه : تقدمني حتى ألحقك ، وخفته . فقصدت قبر معروف فدعوت الله أن يكفيني شره ، وهناك شيخ ، فقال لي : على من تدعو ؟ فذكرت له ذلك ، ووصلت إلى ابن حاجب النعمان ، فأغلظ لي في القول ، ولم يقبل عذري ، فأتاه خادم برقعة ففتحها وقرأها وتغير لونه ، ( ونزل من ) الشدة ، فاعتذر إلي ثم قال : كتبت إلى الخليفة قصة ؟ فقلت : لا . وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة .
وقيل : كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام : فقسم كان يتركه بين يديه ، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة ، وقسم يرسله إلى جامع المدينة ، يفرق على المقيمين فيهما ، فاتفق أن الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع المدينة ، ففرقه على الجماعة ، فأخذوا ، إلا شابا فإنه رده .
فلما صلوا المغرب خرج الشاب ، وتبعه الفراش ، فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع ، فقال له الفراش : ويحك ألا تستحي ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج ( وتأخذ من ) الأبواب فقال : والله ما رددته إلا لأنك عرضته علي قبل المغرب ، وكنت غير محتاج إليه ، فلما احتجت طلبت ، فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له : راع مثل هذا ، واغتنم أخذه ، وأقم إلى وقت الإفطار .
وقال أبو الحسن الأبهري : أرسلني بهاء الدولة إلى في رسالة ، فسمعته ينشد : القادر بالله
سبق القضاء بكل ما هو كائن والله يا هذا لرزقك ضامن
[ ص: 747 ] تعنى بما يفنى ، وتترك ما به
تغنى ، كأنك للحوادث آمن أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها
فاعمل ليوم فراقها ، يا حائن واعلم بأنك لا أبا لك في الذي
أصبحت تجمعه لغيرك خازن يا عامر الدنيا أتعمر منزلا
لم يبق فيه مع المنية ساكن الموت شيء أنت تعلم أنه
حق ، وأنت بذكره متهاون إن المنية لا تؤآمر من أتت
في نفسه يوما ولا تستأذن
فقلت : الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد مثل هذه الأبيات . فقال : بل لله المنة إذ ألزمنا بذكره ، ووفقنا لشكره . ألم تسمع قول في أهل المعاصي : هانوا عليه فعصوه ، ولو عزوا عليه لعصمهم ، ومناقبه كثيرة . الحسن البصري