الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية الفتكين دمشق وماكان منه إلى أن مات

قد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي ، مولى معز الدولة بن بويه ، من مولاه بختيار بن معز الدولة ، ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق ، فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك ، فوصل إلى حمص ، فنزل بالقرب منها ، فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه ، فلم يتمكن من أخذه ، فعاد عنه وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها .

وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز ، وكان الأحداث قد غلبوا عليها ، وليس للأعيان معهم حكم ، ولا للسلطنة عليهم طاعة ، فلما نزل خرج أشرافها وشيوخها إليه ، وأظهروا له السرور بقدومه ، وسألوه أن يقيم عندهم ، ويملك بلدهم ، ويزيل عنهم سمة المصريين ، فإنهم يكرهونها بمخالفة الاعتقاد ، ولظلم عمالهم ، ويكف عنهم شر الأحداث ، فأجابهم إلى ذلك ، واستخلفهم على الطاعة والمساعدة ، وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره ، ودخل البلد ، وأخرج عنه ريان الخادم ، وقطع خطبة المعز ، وخطب للطائع لله في شعبان ، وقمع أهل العيث والفساد ، وهابه الناس كافة ، وأصلح كثيرا من أمورهم .

فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به ، فقصدهم ، وأوقع بهم ، [ ص: 334 ] وقتل كثيرا منهم ، وأبان عن شجاعة ، وقوة نفس ، وحسن تدبير ، فأذعنوا له وأقطع البلاد ، وكثر جمعه ، وتوفرت أمواله ، وثبت قدمه .

وكاتب المعز بمصر يداريه ، ويظهر له الانقياد ، فشكره ، وطلب منه أن يحضره عنده ليخلع عليه ، ويعيده واليا من جانبه ، فلم يثق به ، وامتنع ( من المسير ) فتجهز المعز وجمع العساكر لقصده ، فمرض ومات ، على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة ، وولي بعده ابنه العزيز بالله ، فأمن الفتكين بموته جهة مصر ، فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام ، فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ ، ومعه رءوس المغاربة ، ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي ، فقاتلهم وكانوا في كثرة ، فطمعوا فيه وخرجوا إليه ، فاستجرهم حتى أبعدوا ، ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل .

وطمع في أخذ عكا ، فتوجه إليها ، وقصد طبرية ، فيها من القتل والنهب مثل صيدا ، وعاد إلى دمشق .

فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كلس فيما يفعل ، فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام ، فجهزه وسيره . فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وقال : قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضى منكم ، وطلب من كبيركم وصغيركم لي ، وإنما كنت مجتازا وقد أظلكم هذا الأمر ، وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذى بسببي . فقالوا : لا نمكنك من فراقنا ، ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك ، وننصرك ، ونقوم معك ، فاستحلفهم على ذلك ، فحلفوا له ، فأقام عندهم . فوصلجوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة ، فحصره ، فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه ، ودامت الحرب شهرين ، قتل فيها عدد كثير من الطائفتين .

فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي ، واستنجاده ، ففعل ذلك ، فسار القرمطي إليه من الأحساء ، فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق ، خوفا أن يبقى بين عدوين ، وكان مقامه عليها سبعة [ ص: 335 ] أشهر ، ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين ، وسارا في أثر جوهر ، فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة ، وسير أثقاله إلى عسقلان ، فاقتتلوا ، فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيرا من رجال الشام والعرب وغيرهم ، فكانوا نحو خمسين ألف فارس وراجل ، فنزلوا على نهر الطواحين ، على ثلاثة فراسخ من البلد ، ومنه ماء أهل البلد ، فقطعوه عنهم ، فاحتاج جوهر ومن معه إلى ماء المطر في الصهاريج وهو قليل لا يقوم بهم ، فرحل إلى عسقلان ، وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها ، وطال الحصار فقلت الميرة ، وعدمت الأقوات ، وكان الزمان شتاء ، فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها ، فاضطروا إلى أكل الميتة ، وبلغ الخبز كل خمسة أرطال ، بالشامي ، بدينار مصري .

وكان جوهر يراسل الفتكين ، ويدعوه إلى الموافقة والطاعة ، ويبذل له البذول الكثيرة ، فيهم أن يفعل ، فيمنعه القرمطي ويخوفه منه ، فزادت الشدة على جوهر ومن معه ، فعاينوا الهلاك ، فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به ، فتقدم إليه واجتمعا راكبين . فقال له جوهر : قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين ، وقد طالت هذه الفتنة ، وأريقت فيها الدماء ونهبت الأموال ، ونحن المؤاخذون بها عند الله تعالى ، وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة ، وبذلت لك الرغائب ، فأبيت إلا القبول ممن يشب ( نار الفتنة ) فراقب الله تعالى ، وراجع نفسك ، وغلب رأيك على هوى غيرك .

فقال الفتكين : أنا والله واثق بك ( في صحة ) الرأي والمشورة منك ، لكني غير متمكن مما تدعوني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه .

فقال جوهر : إذا كان الأمر على ما ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلا على أمانتك ، وما أجده من الفتوة عندك ، وقد ضاق الأمر بنا ، وأريد أن تمن علي بنفسي وبمن معي من المسلمين ، وتذم لنا ، وأعود إلى صاحبي شاكرا لك وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف .

فأجابه إلى ذلك ، وحلف له على الوفاء به ، وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال ( فقال : لقد أخطأت ) فإن جوهرا له رأي وحزم ومكيدة ، وسيرجع إلى صاحبه فيحمله [ ص: 336 ] على قصدنا بما لا طاقة لنا به ، والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعا ، ونأخذهم بالسيف ، فامتنع الفتكين من ذلك وقال : لا أغدر به ، وأذن لجوهر ولمن معه بالسير إلى مصر ، فسار إليه ، واجتمع بالعزيز ، وشرح له الحال وقال : إن كنت تريدهم فاخرج إليهم بنفسك ، وإلا فهم واصلون على أثري ، فبرز العزيز ، وفرق الأموال ، وجمع الرجال ، وسار وجوهر على مقدمته .

وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة ، وجمعا العرب وغيرها ، وحشدا ، ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة ، ونزلا بالقرب منه ، ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة ، فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه ، فأرسل إليه ( في تلك الحال ) يدعوه إلى طاعته ، ويبذل له الرغائب والولايات ، وأن يجعله مقدم عسكره ، والمرجوع إليه في دولته ، ويطلب أن يحضر عنده ويسمع قوله ، فترجل وقبل الأرض بين الصفين ، وقال للرسول : قل لأمير المؤمنين : لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت ، وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى . ( وحمل على المسيرة ) فهزمها ، وقتل كثيرا منها فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب ، وأمر الميمنة ( فحملت ، فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما ، ووضع المغاربة السيف ، فأكثروا القتل ، وقتلوا نحو عشرين ألفا .

ونزل العزيز في خيامه ، وجاءه الناس بالأسرى ، فكل من أتاه بأسير خلع عليه ، وبذل لمن أتاه بالفتكين أسيرا مائة ألف دينار ، ( وكان الفتكين ) قد مضى منهزما فكظه العطش ، فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم ، فطلب منه الفتكين ماء ، فسقاه ، وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه ، وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين ، وطلب منه المال ، فأعطاه ما ضمنه ، وسير معه من تسلم الفتكين منه ، فلما وصل الفتكين إلى العزيز لم يشك أنه يقتله لوقته ، فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه ، وأمر له بالخيام فنصبت ، وأعاد إليه جميع ( من كان يخدمه ) ، فلم يفقد من حاله شيئا ، وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله ، وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه .

[ ص: 337 ] وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزما إلى طبرية ، فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه ، ويفعل أكثر مما فعل مع الفتكين ، فلم يرجع ، فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار وجعلها كل سنة ، فكان يرسلها إليه ، وعاد إلى الأحساء .

ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عنده قصره ، وزاد أمره ، وتحكم ، فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس ، وترك الركوب إليه ، فصار بينهما عداوة متأكدة ، فوضع عليه من سقاه سما فمات ، فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفا وأربعين يوما ، وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ، ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير ، فخلع عليه ، وأعاده إلى وزارته .

التالي السابق


الخدمات العلمية