ذكر القاهر بالله خلع
وفيها خلع القاهر بالله في جمادى الأولى ، وكان سبب ذلك أن أبا علي بن مقلة كان مستترا من القاهر ، والقاهر يتطلبه ، وكذلك الحسن بن هارون ، فكانا يراسلان قواد الساجية ، والحجرية ، ويخوفانهم من شره ، ويذكران لهم غدره ونكثه مرة بعد أخرى ، كقتل مؤنس ، وبليق ، وابنه علي بعد الأيمان لهم ، وكقبضه على طريف السبكري بعد اليمين له ، مع نصح طريف له ، إلى غير ذلك .
وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ليلا ، تارة في زي أعمى ، وتارة في زي مكد ، وتارة في زي امرأة ، ويغريهم به .
ثم إنه أعطى منجما كان لسيما مائتي دينار ، وأعطاه الحسن مائة دينار ، وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر ويقتله ، ( وأعطى ابن مقلة أيضا ) لمعبر كان لسيما يعبر له المنامات ، فكان يحذره أيضا من القاهر ، ويعبر له على ما يريد ، فازداد نفورا ( من القاهر ) .
ثم إن القاهر شرع في عمل مطامير في الدار ، فقيل لسيما ولجماعة قواد الساجية والحجرية : إنما عملها لأجلكم ، فازدادا نفورا ، ونقل إلى سيما أن القاهر يريد قتله ، [ ص: 18 ] فجمع الساجية ، وكان هو رئيسهم المقدم عليهم ، وأعطاهم السلاح ، وأنفذوا إلى الحجرية : إن كنتم موافقين لنا ، فجيئوا إلينا حتى نحلف بعضنا لبعض ، وتكون كلمتنا واحدة ، فاجتمعوا جميعهم ، وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقتل من خالف منهم .
فاتصل ذلك بالقاهر ووزيره الخصيبي ، فأرسل إليهم الوزير : ما الذي حملكم على هذا ؟ فقالوا : قد صح عندنا أن القاهر يريد القبض على سيما ، وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوادنا ورؤساءنا ، فلما كان يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى ، اجتمع الساجية والحجرية عند سيما ، وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر ، فقال لهم سيما : قوموا بنا الساعة حتى نمضي هذا العزم ، فإنه إن تأخر علم به ، واحترز وأهلكنا .
وبلغ ذلك الوزير ، فأرسل الحاجب سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك ، فوجداه نائما قد شرب أكثر ليلته ، فلم يقدرا على إعلامه بذلك .
وزحف الحجرية والساجية إلى الدار ، ووكل سيما بأبوابها من يحفظها ، وبقي هو على باب العامة ، وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب ، فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة ، استيقظ مخمورا ، وطلب بابا يهرب منه ، فقيل له : إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال ، فهرب إلى سطح حمام ، فلما دخل القوم لم يجدوه ، فأخذوا الخدم وسألوهم عنه ، فدلهم عليه خادم صغير ، فقصدوه ، فرأوه وبيده السيف ، فاجتهدوا به فلم ينزل لهم ، فألانوا له القول ، وقالوا : نحن عبيدك ، وإنما نريد أن نأخذ عليك العهود ، فلم يقبل منهم ، وقال : من صعد إلي قتلته . فأخذ بعضهم سهما ، وقال : إن نزلت ، وإلا وضعته في نحرك . فنزل حينئذ إليهم ، فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكري ، ففتحوه وأخرجوه منه ، وحبسوا القاهر مكانه ، ثم سلموه ، وهرب وزيره الخصيبي وسلامة حاجبه .
وقيل في سبب خلعه وقيام الساجية والحجرية غير ما تقدم ، وهو أن القاهر لما تمكن من الخلافة ، أقبل ينقص الساجية والحجرية على ممر الأيام ، ولا يقضي لأكابرهم حاجة ، ويلزمهم النوبة في داره ، ويؤخر أعطياتهم ، ويغلط لمن يخاطبه منهم في أمر ، ويحرمه ، فأقبل بعضهم ينذر بعضا ، ويتشاكون بينهم ، ثم إنه كان يقول لسلامة [ ص: 19 ] حاجبه : يا سلامة ، أنت بين يدي كنز مال يمشي ، فأي شيء يبين في مالك لو أعطيتني ألف ألف دينار ؟ فيحمل ذلك منه على الهزل .
وكان وزيره الخصيبي أيضا خائفا لما يرى منه ، ثم إنه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض ، وأحكم أبوابها ، فكان يقال : إنه عملها لمقدمي الساجية والحجرية ، فازداد نفورهم منه وخوفهم ، ثم إن جماعة من القرامطة أخذوا بفارس وأرسلوا إلى بغداذ ، كما تقدم ، فحبسوا في تلك المطامير ، ثم تقدم سرا بفتح الأبواب عليهم ، والإحسان إليهم ، وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدمي الحجرية والساجية ، وبمن معه من غلمانه .
وأنكر الحجرية والساجية حال القرامطة ، وكونهم معه في داره محسنا إليهم ، وقالوا لوزيره الخصيبي ، وحاجبه سلامة في ذلك ، فقالا له ، فأخرجهم من الدار ، فسلمهم إلى محمد بن ياقوت ، وهو على شرطة بغداذ ، فأنزلهم في دار ، وأحسن إليهم ، وكان يدخل إليهم من يريد ، فعظم استيحاشهم .
ثم صار يذمهم في مجلسه ، ويظهر كراهتهم ، حتى تبينوا ذلك في وجهه وحركاته معهم ، فأظهروا أن لبعض قوادهم عرسا ، فاجتمعوا بحجته ، وقرروا بينهم ما أرادوا ، وافترقوا ، وأرسلوا إلى سابور خادم والدة المقتدر ، فقالوا له : قد علمت ما فعله بمولاتك ، وقد ركبت في موافقته كل عظيم ، فإن وافقتنا على ما نحن عليه ، وتقدمت إلى الخدم بحفظه ، فعفا الله عما سلف منك ، وإلا فنحن نبدأ بك ، فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر ، وأنه موافقهم ، وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خلع ، كما ذكرنا ، وكانت خلافته سنة واحدة وستة أشهر وثمانية أيام .