ذكر الحسن بن علي صقلية ولاية
في هذه السنة استعمل المنصور الحسن بن علي بن أبي الحسن الكلبي على جزيرة صقلية ، وكان له محل كبير عند المنصور ، وله أثر عظيم في قتال أبي يزيد .
وكان سبب ولايته أن المسلمين كانوا قد استضعفهم الكفار بها أيام عطاف لعجزه وضعفه ، وامتنعوا من إعطاء مال الهدنة ، وكانوا بصقلية بنو الطبري من أعيان الجماعة ، ولهم أتباع كثيرون ، فوثبوا بعطاف أيضا ، وأعانهم أهل المدينة عليه يوم عيد الفطر سنة [ ص: 177 ] خمس وثلاثين [ وثلاثمائة ] ، وقتلوا جماعة من رجاله ، وأفلت عطاف هاربا بنفسه إلى الحصن ، فأخذوا أعلامه وطبوله وانصرفوا إلى ديارهم ، فأرسل أبو عطاف إلى المنصور يعلمه الحال ويطلب المدد .
فلما علم المنصور ذلك ، استعمل على الولاية الحسن بن علي ، وأمره بالمسير ، فسار في المراكب ، فأرسى بمدينة مازر ، فلم يلتفت إليه أحد ، فبقي يومه ، فأتاه في الليل جماعة من أهل إفريقية ، وكتامة ، وغيرهم ، وذكروا أنهم خافوا الحضور عنده من ابن الطبري ومن اتفق معه من أهل البلاد ، وأن علي بن الطبري ، ومحمد بن عبدون ، وغيرهما قد ساروا إلى إفريقية ، وأوصوا بنيهم ليمنعوه من دخول البلد ، ومفارقة مراكبه إلى أن تصل كتبهم بما يلقون من المنصور ، وقد مضوا يطلبون أن يولي المنصور غيره .
ثم أتاه نفر من أصحاب ابن الطبري ومن معه ليشاهدوا من معه ، فرأوه في قلة ، فطمعوا فيه ، وخادعوه وخادعهم ، ثم عادوا إلى المدينة ، وقد وعدهم أنه يقيم بمكانه إلى أن يعودوا إليه ، فلما فارقوه جد السير إلى المدينة قبل أن يجمعوا أصحابهم ويمنعوه ، فلما انتهى إلى البيضاء ، أتاه حاكم البلد وأصحاب الدواوين ، وكل من يريد العافية ، فلقيهم وأكرمهم ، وسألهم عن أحوالهم ، فلما سمع إسماعيل بن الطبري بخروج هذا الجمع إليه ، اضطر إلى الخروج إليه ، فلقيه الحسن وأكرمه وعاد إلى داره ، ودخل الحسن البلد ، ومال إليه كل منحرف عن بني الطبري ومن معهم .
فلما رأى ابن الطبري ذلك ، أمر رجلا صقليا ، فدعا بعض عبيد الحسن وكان موصوفا بالشجاعة ، فلما دخل بيته ، خرج الرجل يستغيث ويصيح ويقول : إن هذا دخل بيتي ، وأخذ امرأتي بحضرتي غصبا ، فاجتمع أهل البلد لذلك ، وحركهم ابن الطبري وخوفهم وقال : هذا فعلهم ، ولم يتمكنوا من البلد ، وأمر الناس بالحضور عند الحسن ظنا منه أنه لا يعاقب مملوكه ، فيثور الناس به ، فيخرجونه من البلد .
فلما اجتمع الناس ، وذلك الرجل يصيح ويستغيث ، أحضره الحسن عنده ، وسأله عن حاله ، فحلفه بالله - تعالى - على ما يقول ، فحلف ، فأمر بقتل الغلام فقتل ، فسر [ ص: 178 ] أهل البلد وقالوا : الآن طابت نفوسنا ، وعلمنا أن بلدنا يتعمر ، ويظهر فيه العدل ، فانعكس الأمر على ابن الطبري ، وأقام الحسن وهو خائف منهم .
ثم إن المنصور أرسل إلى الحسن يعرفه أنه قبض على علي بن الطبري ، وعلى محمد بن عبدون ، ومحمد بن جنا ، ومن معهم ، ويأمره بالقبض على إسماعيل بن الطبري ، ورجاء بن جنا ومحمد . . ومخلفي الجماعة المقبوضين ، فاستعظم الأمر ، ثم أرسل إلى ابن الطبري يقول له : كنت قد وعدتني أن نتفرج في البستان الذي لك ، فتحضر لنمضي إليه ، وأرسل إلى الجماعة على لسان ابن الطبري يقول : تحضرون لنمضي مع الأمير إلى البستان ، فحضروا عنده ، وجعل يحادثهم ويطول إلى أن أمسوا ، فقال : قد فات الليل ، وتكونون أضيافنا ، فأرسل إلى أصحابهم يقول : إنهم الليلة في ضيافة الأمير ، فتعودون إلى بيوتهم إلى الغد ، فمضى أصحابهم ، فقبض عليهم ، وأخذ جميع أموالهم ، وكثر جمعه ، واتفق الناس عليه وقويت نفوسهم ، فلما رأى الروم ذلك ، أحضر الراهب مال الهدنة لثلاث سنين .
ثم إن الروم أرسل بطريقا في البحر في جيش كثير إلى صقلية ، واجتمع هو ملك والسردغوس ، فأرسل الحسن بن علي إلى المنصور يعرفه الحال ، فأرسل إليه أسطولا فيه سبعة آلاف فارس ، وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل سوى البحرية ، وجمع الحسن إليهم جمعا كثيرا ، وسار ( في البر ) والبحر ، فوصل إلى مسيني ، وعدت العساكر الإسلامية إلى ريو ، وبث الحسن السرايا في أرض قلورية ، ونزل الحسن على جراجة ، وحاصرها أشد حصار ، وأشرفوا على الهلاك من شدة العطش ، [ ص: 179 ] فوصلهم الخبر أن الروم قد زحفوا إليه ، فصالح أهل جراجة على مال أخذه منهم ، وسار إلى لقاء الروم ، ففروا من غير حرب إلى مدينة بارة ، ونزل الحسن على قلعة قسانة ، وبث سراياه إلى قلورية ، وأقام عليها شهرا ، فسألوه الصلح ، فصالحهم على مال أخذه منهم .
ودخل الشتاء ، فرجع الجيش إلى مسيني ، وشتى الأسطول بها ، فأرسل المنصور يأمره بالرجوع إلى قلورية ، فسار الحسن ، وعدا المجاز إلى جراجة ، فالتقى المسلمون والسردغوس ومعه الروم يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة ، فاقتتلوا أشد قتال رآه الناس ، فانهزمت الروم ، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل ، وأكثروا القتل فيهم ، وغنموا أثقالهم وسلاحهم ودوابهم .
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين [ وثلاثمائة ] فقصد الحسن جراجة فحصرها ، فأرسل إلى قسطنطين ملك الروم يطلب منه الهدنة ، فهادنه ، وعاد الحسن إلى ريو وبنى بها مسجدا كبيرا في وسط المدينة ، وبنى في أحد أركانه مئذنة ، وشرط على الروم أنهم لا يمنعون المسلمين من عمارته ، وإقامة الصلاة فيه ، والأذان ، وأن لا يدخله نصراني ، ومن دخله من الأسارى المسلمين ، فهو آمن سواء كان مرتدا أو مقيما على دينه ، وإن أخرجوا حجرا منه ، هدمت كنائسهم كلها بصقلية وإفريقية ، فوفى الروم بهذه الشروط كلها ذلة وصغارا .
وبقي الحسن بصقلية إلى أن توفي المنصور وملك المعز ، فسار إليه وكان ما نذكره .