الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
387 - " إذا أراد الله بعبد خيرا؛ فتح له قفل قلبه؛ وجعل فيه اليقين والصدق؛ وجعل قلبه واعيا لما سلك فيه؛ وجعل قلبه سليما؛ ولسانه صادقا؛ وخليقته مستقيمة؛ وجعل أذنه سميعة؛ وعينه بصيرة " ؛ ( أبو الشيخ ) ؛ عن أبي ذر ؛ (ض).

التالي السابق


(إذا أراد الله بعبد خيرا؛ فتح) ؛ بالتحريك؛ (له قفل قلبه) ؛ بضم القاف؛ وسكون الفاء؛ أي: أزال عن قلبه حجب الإشكال؛ وبصر بصيرته مراتب أهل الكمال؛ حتى يصير قابلا للفيض السبحاني؛ مستمدا للإمداد الرحماني؛ فإذا هبت رياح الألطاف انكشفت الحجب عن أعين القلوب؛ وفاضت الرحمة؛ وأشرق النور؛ وانشرح الصدر؛ وانكشف للقلب سر الملكوت؛ وانقشع عن قلبه حجاب العزة؛ بلطف الرحمة؛ وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية؛ وعند انكشاف الحجب يلمع في القلب من وراء ستر الغيب غرائب العلوم؛ تارة كالبرق الخاطف؛ وأخرى على التوالي؛ إلى حد ما؛ ودوامه في غاية الندور؛ وتعلق جمع صوفية - منهم البوني - بإناطة ذلك بمجرد الإرادة؛ على أنه لا يحصل بالعلوم التعليمية؛ قالوا: لا طريق إلا الاستعداد بالتصفية المجردة؛ ومحو الصفات المذمومة؛ وقطع العلائق؛ وإحضار الهمة؛ مع الإرادة الصادقة؛ والتعطش التام؛ والترصد بدوام الانتظار لما يفتح الله؛ إذ الأنبياء؛ والأولياء انكشفت لهم الأمور؛ وفاض على صدورهم النور؛ لا بالدراسة للكتب؛ بل بالزهد في الدنيا؛ والتبري من علائقها؛ والتفرغ من عوائقها؛ والإقبال بكنه الهمة على الله؛ فمن كان لله؛ كان الله (تعالى) له؛ انتهى؛ ونوزع بما حاصله أن تقديم تعلم الأحكام متعين؛ معين؛ وأجاب الغزالي - رحمه الله (تعالى) - بأن القرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف؛ وذلك علم من غير تعلم؛ وأصل " الفتح" : زوال الإشكال والغلق؛ صورة أو معنى؛ و" القفل" : واحد الأقفال؛ (وجعل فيه) ؛ أي: في قلبه؛ (اليقين) ؛ أي: العلم المتوالي؛ بسبب النظر في المخلوقات؛ أو ارتفاع الريب؛ ومشهد الغيب؛ وقد وصف الله المؤمنين بالإيمان بالغيب؛ و" الإيمان" : التصديق؛ وإنما يصدق المرء الشيء حتى يتقرر عنده؛ فيصير كالمشاهد؛ والمشاهدة بالقلب هو اليقين؛ قال الخواص - رحمه الله (تعالى) -: " لقيت شابا بالبادية؛ كأنه سبيكة فضة؛ فقلت: إلى أين؟ قال: إلى مكة؛ قلت: بلا زاد؛ ولا راحلة؟! قال: يا ضعيف اليقين؛ الذي يقدر على حفظ السماوات والأرض لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا علاقة؟!" ؛ (والصدق) ؛ أي: التصديق الدائم الجازم؛ الذي ينشأ عنه دوام العمل؛ والصدق - وإن شاع في خصوص الأقوال - لكن يستعمل في بعض الموارد في بعض الأحوال؛ كما بينه أهل الكمال؛ ومن لم يبصر الخير بقلبه؛ ويصدق به؛ لم يتيقنه؛ وإن صدق بلسانه؛ بل هو في عماء وحيرة؛ (وجعل قلبه واعيا) ؛ أي: حافظا؛ (لما سلك) ؛ أي: دخل فيه؛ حتى ينجع؛ (فيه) ؛ الوعظ القليل؛ والنصيحة اليسيرة؛ و" الوعي" : الحفظ؛ يقال: " وعيت الحديث" ؛ حفظته؛ وتدبرته؛ (وجعل قلبه سليما) ؛ من الأمراض؛ كحسد؛ وحقد؛ وكبر؛ وغيرها؛ (ولسانه [ ص: 260 ] صادقا) ؛ لتعظم حرمته؛ وتظهر ملاحته؛ إذ اللسان الصادق من أعظم المواهب الربانية؛ وبه يستقيم حال العبد في أحواله الدينية؛ والدنيوية؛ قال الحراني : والصدق مطابقة ظاهر النطق والفعل بباطن الحال؛ (وخليقته) ؛ سجيته؛ وطبيعته؛ (مستقيمة) ؛ معتدلة؛ متوسطة بين طرفي الإفراط؛ والتفريط؛ و" الاستقامة" : كون الخط بحيث ينطق أجزاؤه المفروضة بعضها على بعض؛ وفي اصطلاح أهل الحقيقة: الوفاء بالعهود؛ وملازمة الطريق المستقيم؛ برعاية حق التوسط في كل أمر ديني؛ ودنيوي؛ فذلك هو الصراط المستقيم؛ (وجعل أذنه سميعة) ؛ صيغة مبالغة؛ أي: مستمعة لما ينفعه في الآخرة؛ مقبلة على ما يسمعه من ذكر الله؛ متأملة لنصوص كلامه؛ مصغية لأوامره وزواجره وأحكامه؛ (وعينه) ؛ أي: عين قلبه؛ (بصيرة) ؛ فيبصر بها ما جاء من الشارع؛ ويتنبأ؛ ويفهم؛ وإن لم يفهم فانهتك عن قلبه ستر الغيوب؛ فشهد الخير عيانا؛ ولزم طريق الكتاب والسنة إيقانا؛ ولم يلتبس عليه المنهاج الواضح المستبين؛ فصار من المهتدين؛ وخص هذه الجوارح بالذكر؛ لأن منها يكون الخير والشر؛ وعليها مدار النفع والضر؛ قال في الكشاف: والبصر نور العين؛ وهو ما يبصر به المرئيات؛ كما أن البصيرة نور القلب؛ وهو ما يستبصر ويتأمل؛ فكأنهما جوهران لطيفان؛ خلقهما الله (تعالى) آلتين للإبصار؛ وللاستبصار؛ انتهى.

وقال الراغب : " البصر" : يقال للجارحة الباصرة؛ والقوة التي فيها؛ ويقال لقوة القلب المدركة: " بصيرة" ؛ و" بصر" ؛ والضرير يقال له: " بصير" ؛ لما له من قوة بصيرة القلب؛ لا لما قيل: إنه على العكس؛ وقال بعض أهل الوفاء: " البصيرة" : فقه القلب في حل أشكال مسائل الخلاف؛ فيما لا يتعلق العلم به تعلق القطع؛ وحقيقتها: نور يقذف في القلب؛ يستدل به العقل الخابط عشواء؛ على سبيل الإصابة؛ وعين البصيرة أتم في النظر من عين البصر؛ لأن جميع ما حواه العالم تتصرف في جميعه؛ والحكم عليه حكما يقينا صادقا؛ والعين لا تبصر ما بعد؛ ولا ما قرب؛ قربا مفرطا؛ ومن ثم قال الغزالي: العقل متصرف في العرش؛ والكرسي؛ وما وراء السماوات؛ والملإ الأعلى؛ كتصرفه في عالمه ومملكته القريبة؛ أعني بدنه الخاص؛ بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل؛ وإنما حجابه بسبب صفات تقارنه من نفسه؛ تضاهي حجاب العين عند تغميض الأجفان؛ انتهى.

وقد انكشف من هذا البيان أن علامة إرادة الله الخير بعبده أن يتولى أمره؛ ظاهره؛ وباطنه؛ سره؛ وعلنه؛ فيكون هو المشير عليه؛ والمدبر لأمره؛ والمزين لأخلاقه؛ والمستعمل لجوارحه؛ والمسدد لظاهره؛ وباطنه؛ والجاعل همومه هما واحدا؛ والمبغض للدنيا في قلبه؛ والموحش له من غيره؛ والمؤنس له بلذة مناجاته في خلواته؛ والكاشف عن الحجب بينه وبين معرفته؛ فذلك من علامات حب الله لعبده.

(فائدة): قال الشبلي: استنار قلبي يوما؛ فشهدت ملكوت السماوات والأرض؛ فوقعت مني هفوة؛ فحجبت عن شهود ذلك؛ فعجبت كيف حجبني هذا الأمر الصغير عن هذا الأمر الكبير؛ فقيل لي: " البصيرة كالبصر؛ أدنى شيء يحل فيها يعطل النظر" .

( أبو الشيخ ) ؛ في الثواب؛ (عن أبي ذر ) ؛ وفيه سعيد بن إبراهيم؛ قال الذهبي : مجهول؛ عن عبد الله بن رجاء؛ قال أبو حاتم : ثقة؛ وقال الفلاس: كثير الغلط؛ والتصحيف ليس بحجة؛ عن سرجس بن الحكم بن عامر بن وائل؛ قال ابن خزيمة : أنا أبرأ من عهدتهما.



الخدمات العلمية