الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
966 - " إسباغ الوضوء شطر الإيمان؛ والحمد لله تملأ الميزان؛ والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض؛ والصلاة نور؛ والزكاة برهان؛ والصبر ضياء؛ والقرآن حجة لك؛ أو عليك؛ كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها؛ أو موبقها " ؛ (حم ن هـ حب)؛ عن أبي مالك الأشعري؛ (صح).

التالي السابق


(إسباغ الوضوء) ؛ أي: إكماله؛ بإيصال الماء فوق الغرة؛ إلى تحت الحنك طولا؛ ومن الأذن إلى الأذن عرضا؛ مع المبالغة في الاستنشاق والمضمضة؛ وإيصال الماء إلى فوق المرفق؛ والكعب مع كل من أصابع اليدين والرجلين؛ والدلك والتثليث؛ ذكره الطيبي؛ ثم قال: فتأمل في بلاغة هذا اللفظ الموجز؛ (شطر الإيمان) ؛ يعني: جزؤه؛ واستعمال الشطر في مطلق الجزء تجوز؛ أخف من إخراج الوضوء والإيمان عن معناهما الشرعي الذي عليه الأكثر؛ ولا ينافيه رواية أحمد : " الطهور نصف الإيمان" ؛ لأن النصف قد يطلق ويراد به أحد قسمي الشيء؛ على وزن: " إذا مت كان الناس نصفين..." ؛ نعم؛ مما يقرب إرادته هنا قول ابن الأثير: الإيمان يطهر خبث الباطن؛ والوصف يطهر الظاهر؛ فكان نصفا؛ وترجيح النووي أن المراد بالإيمان الصلاة: وما كان الله ليضيع إيمانكم ؛ أطيل في رده؛ قال مغلطاي: والحديث حجة على من يرى أن الوضوء لا يفتقر إلى نية؛ (والحمد لله) ؛ أي: هذا اللفظ وحده؛ أو هذه الكلمة وحدها؛ خلافا لزاعم أن المراد " الفاتحة" ؛ (تملأ) ؛ بفوقية: أي: هذه الكلمة؛ وقيل: تطلق على الجمل المفيدة؛ أو بتحتية؛ أي: هذا اللفظ؛ كذا ذكره بعضهم.

لكن قال النووي : ضبطناه بالفوقية؛ وظاهره أنه الرواية؛ (الميزان) ؛ أي: ثواب النطق بذلك مع الإذعان لمدلوله يملأ كفة الحسنات التي هي كطباق السماوات؛ بل أوسع؛ وذلك لاشتمال الحمد على التفويض والافتقار إليه (تعالى)؛ وفيه إثبات الميزان؛ ذا كفتين ولسان؛ ووزن الأعمال فيها بعد أن تجسم؛ أو توزن الصحائف؛ قيل: ولكل إنسان ميزان؛ والأصح الاتحاد؛ (والتسبيح) ؛ أي: تنزيه الله عما لا يليق به بنحو " سبحان الله" ؛ (والتكبير) ؛ أي: تعظيم الله بنحو " الله أكبر" ؛ (تملأ) ؛ بالفوقية؛ أو بالتحتية؛ على ما تقرر؛ (السماوات) ؛ السبع؛ (والأرضين) ؛ لو قدر ثوابها جسما؛ لأن العبد إذا سبح وكبر؛ امتلأ ميزانه من الحسنات؛ والميزان أوسع من السماوات والأرض؛ فما يملؤه أكثر مما يملؤها؛ ويظهر أن المراد بذلك التعظيم؛ ومزيد التكثير؛ لا التحديد؛ بدليل قوله في رواية مسلم الآتية - بدل ما هنا -: " يملأ ما بين السماء والأرض" ؛ (والصلاة) ؛ الجامعة لمصححاتها؛ ومكملاتها؛ (نور) ؛ أي: ذات نور؛ أو منورة؛ إذ هي سبب [ ص: 485 ] لإشراق نور المعارف؛ ومكاشفات الحقائق؛ مانعة من المعاصي؛ ناهية عن الفحشاء والمنكر؛ هادية للصواب؛ أو ذاتها نور؛ مبالغة في التشبيه؛ (والزكاة) ؛ كذا هو بخط المؤلف؛ ولفظ رواية مسلم الآتية: " الصدقة" - بدل " الزكاة" -؛ أي: الصدقة المفروضة؛ بدليل هذه الرواية؛ ولأن الصدقة إذا أطلقت في التنزيل مقترنة بالصلاة؛ فالمراد بها الزكاة؛ لكن يؤخذ من تعليلهم الآتي ذكرها للتصوير؛ لا للتقييد؛ (برهان) ؛ حجة؛ ودليل قوي إلى إيمان المتصدق؛ وحبه لربه؛ ورغبته في ثوابه؛ فإن النفس مجبولة على حب المال؛ والشيطان يعد الإنسان الفقر؛ ويزين له الشح؛ والنفس تساعده؛ فمخالفة النفس والشيطان من أقوى البراهين على حب الرحمن؛ ويطعمون الطعام على حبه ؛ وهنا تكلفات يمجها السمع؛ فاحذرها؛ (والصبر) ؛ أي: حبس النفس على مشاق الطاعة؛ والنوائب؛ والمكاره؛ (ضياء) ؛ أي: لا يزال صاحبه مستضيئا بنور الحق على سلوك سبيل الهداية والتوفيق؛ ليتحلى بضياء المعارف؛ والتحقيق؛ فيظفر بمطلوبه؛ ويفوز بمرغوبه؛ وخص الصلاة بالنور؛ والصبر بالضياء؛ مع أن الضياء أعظم؛ بشهادة: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ؛ لأن الصبر أس جميع الأعمال؛ ولولاه لم تكن صلاة؛ ولا غيرها؛ ولأن الوضوء فيه إحراق؛ والنور محض إشراق؛ والصبر شاق؛ مر المذاق؛ (والقرآن) ؛ أي: اللفظ المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - للإعجاز بأقصر سورة منه؛ (حجة لك) ؛ في تلك المواقف التي تسأل فيها عنه؛ كالقبر والميزان وعقبات الصراط؛ إن عملت بما فيه من امتثال المأمور؛ وتجنب المنهي؛ (أو عليك) ؛ في تلك المواطن؛ إن لم تعمل به؛ وزعم أن المراد: " لك أو عليك" ؛ في المباحث الشرعية؛ والقضايا الحكمية؛ مما يمجه السمع؛ ولما كان هذا مظنة سؤال سائل يقول: قد تبين من هذا التقدير الرشد من الغي؛ فما في حال الناس بعد ذلك؟ ختم لذلك بجملة استئنافية؛ فقال: (كل الناس يغدو) ؛ أي: كل منهم يبكر ساعيا في تحصيل أغراضه؛ (فبائع نفسه) ؛ من ربها؛ ببذلها فيما يرضاه؛ (فمعتقها) ؛ من أليم العذاب؛ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ؛ (أو) ؛ بائع نفسه من الشيطان؛ ببذلها فيما يؤذيها؛ فهو؛ (موبقها) ؛ أي: مهلكها بسبب ما أوقعها فيه من استحقاق العذاب؛ وكشف الحجاب؛ والإبعاد عن حضرات رب الأرباب؛ والفاء في " فبائع نفسه" ؛ تفصيلية؛ وفي " فمعتقها" ؛ سببية؛ (واعلم) ؛ أن جميع ما مر تقريره هو حاصل ما ذكره النووي ؛ ثم القاضي؛ وقال الطيبي - بعد إيراده -: ولعل المعني بالإيمان هنا: شعبته؛ كما في حديث: " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ؛ والطهور والحمد وسبحان الله والصلاة والصدقة والصبر والقرآن أعظم شعبها؛ التي تخص؛ وتخصيصها لبيان فائدتها؛ وفخامة شأنها؛ فبدأ بالطهور؛ وجعله شطر الإيمان؛ أي: شعبة منه؛ وتقريره بوجوه؛ أحدها أن طهارة الظاهر أمارة لطهارة الباطن؛ إذ الظاهر عنوانه؛ فكما أن طهارة الظاهر ترفع الخبث؛ والحدث؛ فكذا طهارة الباطن في التوبة تفتح باب السلوك للسائرين إليه (تعالى)؛ ولهذا جمعها في قوله: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ؛ الثاني: أنه اشتهر أن من أراد الوفود إلى العظماء؛ يتحرى تطهير ظاهره من الدنس؛ ولبس الثياب النقية الفاخرة؛ فوافد ملك الملوك ذي العزة والجبروت؛ أولى؛ قال: وخص الصلاة بالنور؛ والصبر بالضياء؛ لأن الضياء فرط الإنارة؛ والصبر تثبت عليه أركان الإسلام؛ وبه أحكمت قواعد الإيمان؛ وختم تلك الشعب بقوله: " والقرآن حجة لك؛ أو عليك" ؛ وسلك به مسلكا غير مسلكها؛ دلالة على كونه سلطانا قاهرا؛ وحاكما فيصلا؛ يفرق بين الحق؛ والباطل؛ حجة الله في الخلق؛ به السعادة والشقاوة؛ وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام؛ لاشتماله على مهمات قواعد الدين؛ فكن له من المتدبرين.

(حم ن هـ حب؛ عن أبي مالك الأشعري) ؛ الحارث ؛ أبي عبيد ؛ أو عمرو ؛ أو كعب ؛ وخرجه مسلم بلفظ: " الطهور شطر الإيمان..." ؛ إلخ.



الخدمات العلمية