الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لزم أحدا المشي لمكة بنذره أو حنثه فركب بعض الطريق ) ورجع وأهدى إن ركب كثيرا بحسب المسافة ، أو المناسك والإفاضة [ ص: 114 ] نحو المصري قابلا فيمشي ما ركب في مثل المعين ، وإلا فله المخالفة [ ص: 115 ] إن ظن أولا القدرة ، وإلا مشى مقدوره وركب وأهدى فقط كأن قل ولو قادرا كالإفاضة [ ص: 116 ] فقط ، وكعام عين وليقضه ، أو لم يقدر وكإفريقي وكإن فرقه ولو بلا عذر ، [ ص: 117 ] وفي لزوم الجميع بمشي عقبة وركوب أخرى تأويلان ، [ ص: 118 ] والهدي واجب إلا فيمن شهد المناسك فندب ، ولو مشى الجميع ، ولو أفسد أتمه ومشى في قضائه من الميقات ، [ ص: 119 ] وإن فاته جعله في عمرة وركب في قضائه

التالي السابق


( و ) إذا لزم أحدا المشي لمكة بنذره أو حنثه فركب بعض الطريق ( رجع ) وجوبا إلى الموضع الذي ابتدأ الركوب منه فلا يلزمه الرجوع إلى بلده ( وأهدى ) وجوبا لتفريق المشي ويؤخر هديه لعام رجوعه ليجمع بين الجابر المالي والنسكي ، فإن قدمه عام مشيه الأول أجزأه . ووجوب رجوعه وهديه ( إن ) كان ( ركب كثيرا ) فإن ركب قليلا فيهدي ، ولا يرجع والكثرة والقلة معتبرة ( بحسب ) جميع ( المسافة ) التي لزمه مشيها صعوبة وسهولة ومساحة ، وليس المراد بكثيرا بحسب أكثر جميع المسافة التي ركبها ، والتي مشاها لاقتضائه أن النصف يسير مع أنه من الكثير كما في المواق والنظر في ذلك لأهل المعرفة ( أو ) ركب ( المناسك ) وهي من مكة إلى رجوعه إلى منى يوم العيد ( والإفاضة ) أي [ ص: 114 ] الرجوع من منى لمكة لطواف الإفاضة والواو بمعنى مع لئلا ينافيه قوله كالإفاضة فقط ، فإن ركب أحدهما فقط وجب الرجوع في ركوب المناسك لا في ركوب الإفاضة كما سيصرح به بقوله كالإفاضة فقط ، ففي المفهوم تفصيل بدليل بقية كلامه فلا اعتراض عليه هنا . هذا قول الإمام مالك رضي الله تعالى عنه . وقال ابن يونس لا رجوع على من ركب المناسك والإفاضة ; لأنه بوصوله إلى مكة بر وإليها كانت يمينه ، انظر المواق . وفاعل رجع وأهدى ( نحو المصري ) ممن على شهر من مكة وأولى نحو المدني وسيأتي حكم البعيد جدا في قوله وكافر بقي من أنه يلزمه هدي بلا رجوع فاشتمل كلامه على الأقسام الثلاثة : القريب والمتوسط والبعيد ومن وجب عليه الرجوع والهدي يرجع ويهدي زمنا ( قابلا ) سواء كان في عامه بالنسبة للعمرة ولمن قرب أو في عام آخر بالنسبة لمن بعد ، وسواء كان القابل واليا للزمن الذي ركب فيه أو متراخيا عنه إذ لا يلزمه الرجوع فورا كقضاء المفسد ( فيمشي ما ) أي المكان الذي ( ركب ) هـ ملتزم المشي إن علمه وإلا فيمشي جميع المسافة ويحرم في حال رجوعه ( في مثل ) النسك ( المعين ) بضم الميم وفتح العين والمثناة أي الذي عينه في التزامه بلفظ أو نية من حج أو عمرة فلا يرجع محرما بعمرة إن كان عين حجا اتفاقا لنقص أركانها عن أركانه ، ولا بحج إن كان عين عمرة على مذهب المدونة خلافا لابن حبيب .

( وإلا ) أي وإن لم يعين حين التزامه حجا ، ولا عمرة وصرفه في أحدهما وركب كثيرا ( فله المخالفة ) لما أحرم به أولا في زمان رجوعه بأن يحرم بخلاف ما أحرم به أولا خلافا لسحنون في منعه جعل الثاني في عمرة إن كان الأول حجا ، وقيد أبو محمد وعبد الحق المشهور بكون ركوبه في الأول في غير المناسك وإلا تعين جعل الثاني في حج ; لأنها لا تصل إليها ، وتأولها غيرهما على جواز جعله في عمرة ولو كان ركب المناسك ، وهذا ظاهر كلام المصنف . [ ص: 115 ] وذكر شرط الرجوع فقال ( إن ظن ) أو علم بالأولى ملتزم المشي ( أولا ) بشد الواو ومنونا أي حين خروجه الأول ( القدرة ) على مشي جميع المسافة ولو في عامين فخاب ظنه ( وإلا ) أي وإن لم يظن حين خروجه القدرة عليه مع ظنها حين التزامه بأن علم أو ظن العجز أو شك لطروء مرض أو كبر سن خرج أول عام ( ومشى مقدوره ) ولو نصف ميل ( وركب ) معجوزه ( وأهدى فقط ) أي بلا رجوع لمشي ما ركبه في زمن قابل ، فإن كان ظن العجز حين التزامه أو نوى أن يمشي ما يطيقه فقط فإنه يخرج أول مرة يمشي مقدوره ويركب معجوزه ، ولا رجوع ، ولا هدي . وإن ظن العجز حين خروجه الثاني عن مشي ما ركبه في خروجه الأول سقط الرجوع عنه وعليه الهدي ، قال فيها لو علم أول خروجه أنه لا يقدر أن يمشي كل الطريق فلا بد أن يخرج أول مرة ولو راكبا ويمشي ولو نصف ميل ، ثم يركب ويهدي ، ولا شيء عليه بعد ذلك ، وإن علم في الثانية أنه لا يقدر على تمام المشي قعد وأهدى وأجزأه الذهاب الأول .

والحاصل مما تقدم ومن كلام التوضيح أنه إن ظن حين الالتزام عدم القدرة فإنه يمشي مقدوره ، ولا رجوع عليه ، ولا هدي ، وإن ظن حينه القدرة فإن ظن حين الخروج القدرة ثم عجز رجع وأهدى وإلا مشى مقدوره وأهدى ، ولا رجوع عليه ، ورجوعه في الثانية مشروط بظن القدرة فيها وإلا قعد وأهدى والله سبحانه وتعالى أعلم .

وشبه في الهدي بلا رجوع فقال ( كأن قل ركوبه ) بحسب المسافة ولو كان له بال في نفسه ، هذا ظاهر ابن عرفة أيضا فيهدي ، ولا يرجع فهذا بيان لمفهوم قوله كثيرا بحسب المسافة إن ركبه عاجزا عن مشيه ، بل ( ولو ) ركب القليل حال كونه ( قادرا ) على مشيه . وشبه في الإهداء لكن ندبا بلا رجوع أيضا فقال ( ك ) ركوب ( الإفاضة ) أي [ ص: 116 ] رجوعه من منى لمكة لطواف الإفاضة فليس المراد ركوبه في طواف الإفاضة ( فقط ) أي دون المناسك من مكة إلى رجوعه إلى منى ، فإن ركب فيها فعليه الرجوع ، ويندب له الهدي كما تقدم وعدل عن العطف إلى التشبيه ليفيد الرجوع فقط إلى ما بعد الكاف . وعطف على المشبه في الهدي فقط مشبها فيه فقط أيضا فقال ( وكعام عين ) بضم فكسر مثقلا الحج فيه ماشيا ، وخرج فيه وأدرك الحج أو فاته لعذر كمرض وركب فيه كثيرا أو مشى فيه جميع المسافة ، وفاته الحج لعذر أو لم يخرج فيه لعذر فعليه الهدي بلا رجوع ( وليقضه ) أي الحج الذي لم يخرج له لغير عذر أو خرج له ولو ماشيا وفاته لغير عذر فيقضيه ولو راكبا ; لأن العام المعين للمشي فيه قد فات ، ومحل لزوم الرجوع ثانيا إنما هو لمن ظن القدرة على مشي أماكن ركوبه في العام الثاني وإلا فلا يرجع ، بل يقعد ويهدي قاله في المدونة ، وإليه أشار بقوله عاطفا على ما لا رجوع فيه وفيه الهدي ( أو ) ظن في العام الثاني أنه إن خرج ( لم يقدر ) على مشي ما ركبه أول مرة فلا يخرج ويهدي فليس هذا معارضا لقوله سابقا وإلا مشى مقدوره إلخ ; لأن ما مر ظن العجز عند الخروج الأول فيخرج ويمشي مقدوره ويهدي وما هنا ظنه عند الخروج الثاني فلا يخرج ويهدي .

وذكر قسيم نحو المصري وهو من بعدت بلده من مكة جدا مشبها له في الإهداء فقط فقال ( وكإفريقي ) نسبة لإفريقية بكسر الهمز وشد التحتية وتخفيفها ، فإن التزم المشي لمكة وركب كثيرا بحسب مسافته فعليه هدي بلا رجوع وأولى من هو أبعد منه كفاسي وسوسي ( وكإن فرقه ) أي المشي في الزمان تفريقا غير معتاد ومشى جميع المسافة لعذر ، بل ( ولو بلا عذر ) فلا رجوع عليه ويهدي قال الحط لم أر من صرح بلزوم الهدي مع التفتيش عليه ، ثم قال وكذا الفرع الذي قبله لم أر من نص فيه على لزوم الهدي غير ابن غازي ولم يجز البناني . [ ص: 117 ] قلت نص على لزوم الهدي فيهما معا ابن رشد في كتاب الحج من البيان ، أما الفرع الأول فذكر فيه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من الحج الأول ، ونصه وأما إن كثر ولم يكن جل الطريق فإنه يرجع ثانية ليمشي ما ركب باتفاق إن كان موضعه قريبا كالمدينة . واختلف إن كان موضعه بعيدا كمصر ، ففي كتاب ابن المواز يرجع وهو ظاهر ما في المدونة ، وفي تفسير ابن مزين لا يرجع .

وأما إن بعد موضعه جدا كإفريقية والأندلس فليس عليه أن يرجع ويجزيه الهدي ; لأن الرجوع من نحو الأندلس أشق من الرجوع من نحو المدينة ، وأما إن كان الذي ركب جل الطريق فما قرب فعليه أن يمشي الطريق كله ثانية رواه ابن الماجشون عن مالك رضي الله تعالى عنه في المبسوطة ، ومثله في الموازية . وأما الفرع الثاني فذكر فيه خلافا في كتاب الحج أيضا وإجزاء التفريق . قال ابن عبد السلام هو الذي في الموازية ومقابله عدم الإجزاء في كتاب ابن حبيب .

وفي التوضيح صوب ابن رشد الإجزاء وابن عبد السلام عدمه قائلا ; لأن عرف الناس في السير إلى مكة تواليه وعدم تفريقه إلا لضرورة ، واقتصر هنا على الإحزاء لقوله في توضيحه رأى اللخمي أن الإجزاء هو الجاري على قول مالك وابن القاسم في المدونة فيمن نذر صوم سنة فله أن يأتي بها غير متتابعة والله أعلم .

وأشار للتفريق بالركوب فقال ( وفي لزوم ) مشي ( الجميع ) عند رجوعه لبطلان مشيه ( بمشي عقبة ) بضم فسكون أي ستة أميال ( وركوب ) عقبة ( أخرى ) لحصول الراحة التامة له بمعادلة ركوبه لمشيه فكأنه لم يمش أصلا وعدم لزوم مشي الجميع بل يمشي أماكن ركوبه فقط ( تأويلان ) سببهما قولها وليس عليه في رجوعه ثانية وإن كان قويا أن يمشي الطريق كله . ا هـ . وفي الموازية عن مالك إن كان ما ركب متناصفا مثل أن يمشي عقبة ويركب أخرى فلا يجزئه إلا أن يمشي الطريق كلها . ا هـ . فجعله أبو الحسن تقييدا للمدونة حملا لكلامها على من ركب دون النصف ، وحمل المصنف في التوضيح وابن عرفة ما [ ص: 118 ] في الموازية على من لم يتحقق مواضع مشيه من ركوبه فهما تأويلان كلاهما بالوفاق الأول لأبي الحسن ، والثاني للمصنف وابن عرفة . طفى والظاهر الخلاف .

( والهدي ) حيث قيل به وجب معه رجوع أم لا ( واجب إلا فيمن شهد ) أي ركب ( المناسك ) كلها أو بعضها أو الإفاضة أو هما ( فندب ولو مشى ) في رجوعه ( الجميع ) مبالغة في الوجوب والندب ; لأنه ترتب في ذمته فلا يسقط عنه بمشي غير واجب ، وأشار بو لو لقول ابن المواز إن مشى الطريق كله فلا هدي عليه ; لأنه لم يفرق مشيه . ابن بشير تعقبه الأشياخ بأنه كيف يسقط ما تقرر من الهدي في ذمته بمشي غير واجب ومثلوه بمن صلى صلاة فسها فيها فوجب عليه سجود السهو فأعادها ثانية ولم يسجد فالسجود متقرر في ذمته ، وفرق بعضهم بأن المصلي أخطأ في الإعادة ، وإنما تقرر في ذمته سجدتا السهو ، فإن أعادها فقد أتى بما لم يؤمر به فلم تسقط إعادته ما تقرر في ذمته وفي الحج هو مأمور بالعودة ، فإن عاد ومشى فقد وفى ما في ذمته من المشي في عودة مأمور بها ففارق مسألة الصلاة .

المواق فانظر اقتصار خليل على خلاف النص مع أن ابن بشير تردد في المسألة ولم يرتكن فيها . ابن يونس ابن المواز قال مالك رضي الله تعالى عنه فيمن شهد المناسك راكبا يهدي أحب إلي من غير إيجاب ولم يره في الهدي مثل من عجز في الطريق . ابن يونس يريد عجزا يوجب عليه العودة فيه أم لا . ابن القاسم ; لأن بعض الناس لم يوجب عليه العودة في المشي إذا بلغ مكة وطاف ورأى أن مشيه قد تم ، وأرخص له في الركوب إلى عرفة فلذلك عندي لم يوجب عليه مالك رضي الله تعالى عنه الهدي .

( ولو أفسد ) من وجب عليه المشي ما أحرم به ابتداء من حج أو عمرة بوطء عامدا أو ناسيا كونه حاجا ( أتمه ) وجوبا فاسدا ولو راكبا . ابن عبد السلام ; لأن إتمامه ليس من النذر في شيء وإنما هو لإتمام الحج المفسد ( ومشى في قضائه من الميقات ) الشرعي إن [ ص: 119 ] كأن أحرم منه قبل الفساد ، فإن كان أحرم فيه قبله مشى من موضع إحرامه ، ولا يلزمه مشي فيما قبله إذ لم يتسلط الفساد إلا على ما بعد إحرامه وعليه هديان : هدي للفساد وهدي لتفريق المشي في عامين ; لأن مشيه في الأول بعد الفساد ملغى ، ومشيه قبله معتبر .

( وإن فاته ) أي الحج من لزمه المشي الذي أحرم به بنذر مشي مبهم أو حنثه في حلفه به ( جعله ) أي المشي ( في عمرة ) أي تحلل منه بفعلها ومشى فيها التمام سعيها ليخلص من نذر المشي بذلك ; لأنه لما فاته وجعله في عمرة فكأنه جعله فيها ابتداء وقد أدى ما عليه بذلك ثم يقضي الحج الذي فاته على حكم الفوات ( وركب ) أي جاز له الركوب ( في قضائه ) فهذا فيمن نذر مشيا مبهما وجعله في حج وفاته كما فيها .

وأما من نذر حجا ماشيا وفاته وتحلل منه بفعل عمرة فإنه إذا قضاه يركب إلا في بقية المناسك وهي ما زاد على السعي بين الصفا والمروة فيمشي فيها ليخلص من نذر المشي بذلك قاله عبد الحق ; لأنه لا يأتي فيه التعليل السابق فيمن نذر مشيا مبهما . ونقل أبو الحسن عن ابن القاسم وسحنون نحو ما لعبد الحق قائلا : وهو خلاف ظاهر المدونة . ا هـ عب .

البناني سياق ابن عرفة والتوضيح إنما يدل على أن هذا الخلاف في الصورة الأولى ونص ابن عرفة في الكلام على من نذر مشيا مبهما ولو فاته حجه حل بعمرة ماشيا وكفت وحج قابلا راكبا ، وفي لزومه مشي المناسك قولا ابن القاسم مع سحنون ومالك ، ولم أر نصا في الثانية والظاهر لزوم مشي المناسك فيها بلا خلاف .




الخدمات العلمية