الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وببقاء ولو ليلا في لا سكنت ، [ ص: 72 ] لا في لأنتقلن ، ولا بخزن ، وانتقل في لا ساكنه [ ص: 73 ] عما كانا عليه ، أو ضربا جدارا ، ولو جريدا بهذه الدار ، [ ص: 74 ] وبالزيادة إن قصد التنحي ، لا لدخول عيال ، إن لم يكثرها نهارا ، ومبيت بلا مرض [ ص: 75 ] وسافر القصر في لأسافرن ومكث نصف شهر وندب كماله ، كأنتقلن [ ص: 76 ] ولو بإبقاء رحله لا بكمسمار ، وهل إن نوى عدم عوده ؟ [ ص: 77 ] تردد

التالي السابق


( و ) حنث ( ببقاء ) في الدار التي حلف لا يسكنها بعد يمينه مدة زائدة على ما يمكنه الانتقال فيه نهارا بل ( ولو ليلا في ) حلفه ( لا سكنت ) هذه الدار فإن بقي بها وهو لا يمكنه الانتقال لعدم من ينقل له متاعه أو خوف ظالم أو سارق وأقام بها يومين أو ثلاثة وهو ينقل متاعه لكثرته وعدم إمكان نقله في يوم واحد عادة لم يحنث لأنه [ ص: 72 ] كالمقصود باليمين وليس غلو الكراء وعدم مناسبة المسكن لحاله عذرا فينتقل ولو لبيت شعر ، وإذا انتقل منها فلا يعود لها أبدا لعموم يمينه السكنى فيها أبدا بخلاف حلفه لأنتقلن من هذه الدار فله العود إليها بعد نصف شهر . وندب كما له ، هذا مذهب المدونة . وقال أشهب لا يحنث حتى يقيم فيها بعد يمينه يوما وليلة . وقال أصبغ لا يحنث حتى يزيد عليهما .

( لا ) يحنث بالبقاء بعد اليمين ( في ) حلفه ( لأنتقلن ) من هذه الدار ويؤمر بالانتقال ليبر في يمينه وهو على حنث فلا يطأ المحلوف بطلاقها حتى ينتقل ، فإن قيد بزمن حنث بمضيه قبل انتقاله وهو على بر إليه . ابن رشد في حمل يمينه لأفعلن على الفور فيحنث بتأخيره أو على التراخي فلا يحنث به قولان ثانيهما هو المشهور من المذهب . وفي تكميل التقييد حكى الصرصري فيمن قال والله إن بقيت في هذه الدار أو لا بقيت أو ما نبقى هل يرد إلى لأنتقلن فلا يحنث إذا رجع وهو الذي اختاره أبو الحسن البالصوتي ، وأفتى به الشيخ القصار أو يرد إلى لا سكنت فيحنث متى رجع وهو الذي اختاره أبو إبراهيم القاري قال : لأن تفسير النفي بالنفي أولى . ا هـ . والظاهر الثاني والله أعلم .

( ولا ) يحنث من حلف على ترك السكنى في دار ( بخزن ) فيها إذ لا يعد سكنى إذا انفرد وإنما عد ابن القاسم بقاء المتاع سكنى إذا كان تبعا لسكنى الأهل ، وظاهر كلام اللخمي أن المذهب الحنث بالخزن واستظهر في التوضيح خلافه ، ولو كان في الدار التي حلف لا يسكنها مطامير فهل ينقل ما فيها نظر فيه التونسي ، ثم قال وينبغي إن كانت المطامير لا تدخل في كراء الدار إلا بشرط واكتراها وحدها لخزن الطعام فلا تدخل في يمينه وله إبقاء ما فيها سواء اكتراها قبل اكتراء الدار أو بعده ، إلا أن لا يليق الخزن بها إلا وهو ساكن في الدار فينبغي نقل ما فيها . وفي نقل المواق أن معنى كلام المصنف أن من حلف لا أسكن هذه الدار وخرج منها ثم خزن فيها فلا يحنث وأما لو كان فيها شيء مخزون وأبقاه فإنه يحنث

( وانتقل ) الحالف ( في ) حلفه ( لا ساكنه ) أي الحالف المحلوف عليه بدار أو [ ص: 73 ] حارة أو قرية صغيرة ليبر في يمينه ويبر بانتقال المحلوف عليه أيضا ( عما ) أي الوجه الذي ( كانا ) أي الحالف والمحلوف عليه ساكنين ( عليه ) انتقالا يزول معه اسم المساكنة عرفا حيث لا نية ولا بساط ، وسواء كانت الدار ساحة هما بها أو هي بيت هما به أو ذات بيوت كل ببيت ، وانتقل في القسم الثاني لحارة أخرى إن كانت يمينه لا أساكنه أو بهذه الحارة ، وأما لا أساكنه بهذه البلدة أو ببلدة فينتقل لأخرى على فرسخ كالقسم الثالث إن صغرت .

فإن كبرت كالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فلا يتوقف بره على انتقاله ، ويتوقف على ترك مقاربته وسكناه معه ، هذا إن كانت يمينه لا أساكنه بدار أو حارة أو حارتين ، فإن كانت لا أساكنه بهذه البلدة أو ببلدة فالظاهر انتقاله لأخرى على فرسخ ، وأما إن حلف لا أساكنه وكل بقرية صغيرة فمعنى انتقاله حيث لا نية ولا بساط أن لا يجتمع معه في مسقى أو محتطب أو مسرح بل يتباعد عنه ، فإن كبرت البلدتان وحلف لا أساكنه فلا يقرب منه عرفا .

ولما شمل كلامه من كان في قرية أو مدينة أو دار وأفاد أن الانتقال مخرج من الحنث في ذلك كله ، وكان للخروج عنه في الدار وجه آخر أشار له بقوله ( أو ضربا ) أي وضع الحالف والمحلوف عليه بينهما ( جدارا ) أي شرعا في بنائه بأثر اليمين ولو لم يخرج أحدهما حتى يضرب فقد يكون ضربه أسرع من الانتقال ، ولا يشترط كونه وثيقا بطوب أو بحجر بل ( ولو ) كان الجدار ( جريدا ) في حلفه لا أساكنه بدون تعيين الدار بل ، ولو عينها بقوله لا أساكنه ( بهذه الدار ) ابن غازي عطفه بأو تنبيها على أنهما إذا كانا ساكنين في دار فالحالف مخير في الانتقال وضرب الجدار ، وهذا قول ابن القاسم فيها ، وأما مالك " رضي الله عنه " فكره الجدار فيها .

وأشار بلو لخلافين : أحدهما الخلاف في إجزاء الحاجز إذا لم يكن وثيقا بالحجر ونحوه بأن كان من جريد وشبهه . والثاني الخلاف في إجزاء الحاجز إذا عين الدار فقال بهذه الدار مثلا أما الجدار فبالجريد فسر ابن محرز المدونة خلافا لابن الماجشون وابن حبيب . [ ص: 74 ] وأما الثاني فقال ابن عرفة والمصنف ظاهر قولها سماها أم لا إجزاء الحاجز في المعينة ، وهو خلاف قول ابن رشد في سماع أصبغ لو عين الدار ولم يبر بالجدار وقد سبقهما لهذا أبو الحسن الصغير ، وزاد إذ المساكنة يزيلها الجدار خلاف السكنى وبالله تعالى التوفيق .

وشرط كفاية ضرب الجدار أن يكون لكل محل مرفق ومدخل على حدة قاله في التوضيح ومحله إذا كان الحلف لأجل ما يحصل بين العيال فإن كان لكراهة جواره فلا بد من الانتقال وإن لم تكن له نية فقولان وجميع ما مر في غير أهل العمود ، وأما هم فلا بد أن ينتقل عنه نقلة بينة حتى ينقطع ما بينهما من خلطة العيال والصبيان ولا ينال بعضهم بعضا في العارية والاجتماع إلا بكلفة ، وصيغة اليمين لا يجاوره أو لينتقلن عنه ، ولا يحنث في لا أساكنه بسفره معه إلا أن ينوي التنحي . ونص ابن القاسم فيها على أنهما إن كانا بمحل وفوقه محل فانتقل أحدهما إليه كفى قال بعض الشيوخ هذا إذا كان سبب اليمين ما يقع بينهما من أجل الماعون ، فإن كان العداوة فلا يكفي .

( و ) حنث في لا أساكنه ( وبالزيارة ) من أحدهما للآخر ( إن قصد ) الحالف بلا أساكنه ( التنحي ) أي البعد عن المحلوف عليه لذاته ; لأنها مواصلة وقرب ( لا ) إن لم يقصد التنحي عنه لذاته بأن كانت يمينه ( لدخول ) شيء بين ( عيال ) أي نساء وصبيان لهما فلا يحنث بها .

وكذا إن كان لا نية له فالمعول عليه مفهوم الشرط بشرطين أفادهما بقوله ( إن لم يكثرها ) أي الزائر منهما الزيارة ( نهارا ومبيت ) عطف على يكثر فهو مجزوم ومنفي ( بلا مرض ) فمنطوقه صورتان وهما انتفاء إكثارها نهارا مع انتفاء البيات ومع البيات بمرض ولا حنث فيهما . ومفهومه أربع صور إكثارها نهارا ولم يبت أو بات لمرض أو بات بلا مرض وعدم إكثارها مع البيات بلا مرض فيحنث فيها .

وقال الشيخ أحمد بابا : الثابت في خط المصنف عطف مبيت بأو وهو الصواب الموافق [ ص: 75 ] لقول ابن رشد : اختلف في حد الطول الذي يكون به الزائر في معنى الساكن على قولين ، ثم قال : والثاني أن الطول أن يكثر الزيارة بالنهار أو يبيت في غير مرض إلا أن يشخص إليه من بلد آخر فلا بأس أن يقيم اليوم واليومين والثلاثة على غير مرض . ا هـ . والمراد بغير مرض المحلوف عليه وأو هنا لكونها واقعة بعد نفي تفيد نفي الأمرين معا كما في الرضى والمغنى .

فإذا قلت لم يجئ زيد أو عمرو فالمعنى لم يجئ واحد منهما ومن ذلك قوله تعالى { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فمنطوق المتن صورة واحدة وهي نفيهما معا وهي صورة عدم الحنث ، ومفهومه ثلاث صور ثبوت الأمرين وثبوت أحدهما وهي صور الحنث والله سبحانه وتعالى أعلم عج مقتضى كون اليمين لما يدخل بين العيال عدم الحنث بالزيارة ولو أكثرها نهارا وبات بلا مرض . عب لعلة أن إكثارها نهارا وبياته بلا مرض وسيلة لمجيء أولاده فيقع بين العيال ما حلف لزواله .

( وسافر ) الحالف ( القصر ) بفتح القاف وسكون الصاد أي المسافة التي تقصر الصلاة فيها شرعا وهي أربعة برد ليبر ( في ) حلفه ( لأسافرن ) وبر به ، وإن لم يقصر الصلاة فيه لعدم قصدها دفعة أو لعصيانه به مثلا ( ومكث ) أي لا يرجع الحالف بعد سفره القصر للبلد الذي سافر منه أو لغيره مما ليس بينه وبينه مسافة القصر ( نصف شهر ) سواء أقام في بلد خارج عن أربعة البرد أو استمر مسافرا من بلد لبلد خارجها حتى أتم نصف شهر .

( وندب ) بضم فكسر ( كماله ) أي الشهور وهو خارج عنها وشبه في سفر القصر وعدم الرجوع نصف شهر وندب كماله فقال ( ك ) الحالف ل ( أنتقلن ) من هذه البلدة لفظا أو نية أو بساطا ، وأما من حلف لينتقلن من هذه الدار أو الحارة كذلك فيكفيه الانتقال لأخرى ومكثه نصف شهر ، وندب كماله في التوضيح هذا إذا قصد إرهاب جاره ونحو ذلك ، وأما إن كره مجاورته فلا يساكنه أبدا ، وكذا ينبغي في مسألة المنة [ ص: 76 ] أنه إن رجع إليه حنث . ا هـ . ونحوه في الحط عن العتبية .

وبالغ على الحنث بالبقاء في لا سكنت وعدم البر بعدم الانتقال في لأنتقلن فقال ( ولو ) كان بقاؤه بعد حلفه لا سكنت أو عدم انتقاله بعد حلفه لأنتقلن ( بإبقاء رحله ) أي متاع الحلف الذي يحمله على الرجوع له أو طلبه لو تركه ، والحنث في الأولى بثلاثة قيود أن لا يكون في نقله فساد ، فإن كان فيه فساد كثمر شجر بدار لم يطب فلا يحنث بإبقائه على أنه لا يسمى رحلا حقيقة وأن يكون حلفه لقطع منه ونحوه ، فإن كان لما يدخل بينه وبين جيرانه من مشارة ونحوها فلا يحنث قاله اللخمي وأن يبقيه بمحل السكنى أو ملحق به مما دخل في عقد إجارته بلا شرط ، وأما لا يدخل إلا بشرط كالمطامير فلا يحنث بإبقائه ما خزن بها قاله التونسي ، ومثل المطامير الصهاريج عند أهل الحجاز ، فإن أبقى رحله في المطامير أو الصهاريج لم يحنث إن أكراها منفردة عن محل سكنه وكانت مأمونة حال انتقاله عنها .

ونص العتبية في رسم أوصى عن سماع عيسى من كتاب النذور سمعت ابن القاسم يقول فيمن حلف لينتقلن فانتقل وترك من السقط ما لا حاجة له به قال لا شيء عليه . ابن رشد أما إذا تركه رافضا له على أن لا يعود إليه فلا اختلاف في أنه لا حنث عليه بتركه ، واختلف إن تركه ناسيا ففي كتاب ابن المواز أنه لا حنث عليه ، وفي سماع عبد الملك عن ابن وهب أنه يحنث بتركه ناسيا ، وأما إن تركه على أن يعود إليه فيأخذه فإنه حانث إلا على مذهب أشهب الذي قال لا يحنث بترك متاعه ، وقول ابن القاسم أظهر . ا هـ .

وهذه طريقة ابن رشد بالتفصيل ومقابلها طريقة ابن يونس لا يحنث بترك السقط عند ابن القاسم مطلقا وإليهما أشار المصنف بالتردد ( لا ) يحنث ( ب ) إبقاء شيء تافه لا يحمله على الرجوع له أو طلبه لو تركه ( كمسمار ) ووتد وخشبة إهمالا أو نسيانا ( وهل ) عدم حنثه .

( إن نوى عدم عوده له ) أي الحالف أي كالمسمار ، فإن نوى عوده له حنث وهذه طريقة ابن رشد ، أو عدم حنثه مطلق سواء نوى عوده له أو عدمه وهذه طريقة ابن يونس [ ص: 77 ] تردد ) للمتأخرين في النقل عن المتقدمين ، وأورد على الشق الأول أنه يقتضي حنثه إذا لم تكن له نية بأنه نسيه مع أن مذهب ابن القاسم فيها عدم الحنث وهو المذهب خلافا لابن وهب ، فلو قال : وهل إلا أن ينوي عوده له تردد كان أولى فمحل التردد إن نوى العود فإن نوى عدمه لم يحنث اتفاقا ا هـ عب .

البناني : التردد هنا للمتأخرين في فهم قول ابن القاسم في الموازية فإن ترك من السقط مثل الوتد والمسمار والخشبة مما لا حاجة له به أو ترك ذلك نسيانا فلا شيء عليه . ا هـ . هل يفيد بقول ابن وهب إن نوى عوده إليه حنث أو يبقى على إطلاقه في عدم الحنث ، ولما لم يكن اختلافهم في فهم المدونة عبر بالتردد دون التأويلين والله أعلم .




الخدمات العلمية