الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      الكراء بالثوب أو الطعام بعينه قلت : أرأيت إن استأجرت أجيرا يعمل لي شهرا أو اكتريت إلى مكة أو إلى بعض المواضع على حمولة أو على أن يحملني أنا نفسي بثوب بعينه فلما وقع الكراء على هذا أتاني ليقبض الثوب فقلت : لا أدفع إليك الثوب حتى أستوفي حمولتي أو تعمل في إجارتك ؟

                                                                                                                                                                                      قال : إن كان كراء الناس عندهم بالنقد أجبر على النقد .

                                                                                                                                                                                      وإن كان كراء الناس عندهم ليس بالنقد لم يصح هذا الكراء ولا هذه الإجارة إلا أن يكون الثوب نقدا ، فإن لم يكن الثوب نقدا فالكراء باطل ; لأن مالكا قال : من اشترى ثوبا بعينه على أنه يعطيه الثوب بعد شهر لم يجز ذلك ، وكان البيع مفسوخا .

                                                                                                                                                                                      قلت : وكذلك لو كانت شاة بعينها أو حيوانا ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم .

                                                                                                                                                                                      قلت : وإن استأجرته بطعام بعينه أو اكتريت بطعام بعينه ليحمل لي حمولتي إلى مكة ؟

                                                                                                                                                                                      قال : إن كان الكراء عندهم نقدا أجبر على النقد وإن لم يكن كذلك فلا يجوز فيه النقد إلا أن يكون الكراء وقع بالنقد فلا بأس ; لأن مالكا قال في الرجل : يبيع طعاما في موضع غائب من رجل وقد رآه المبتاع قبل ذلك فيشترط إن أدرك الطعام كان للمشتري فإن ضاع قبل أن يدركه كان على البائع مثله ؟

                                                                                                                                                                                      قال مالك : لا خير في هذا البيع ; لأنه لا يدري على أي الطعامين وقع بيعه فالكراء مثل البيع .

                                                                                                                                                                                      قلت : والعروض والطعام عند مالك سواء ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم ، إلا أن تكون الصفقة على النقد فلا بأس بالكراء .

                                                                                                                                                                                      قلت : فلو أنه اكترى منه إلى مكة على حمولة أو على نفسه أو استأجره أو اكترى منه داره سنة بهذه الدراهم بعينها أو بهذه الدنانير بعينها فوقع الكراء على هذا فأبى أن ينقده تلك الدنانير أو تلك الدراهم حتى يستوفي الذي له من كرائه ومن عمل الأجير ومن سكنى الدار ؟

                                                                                                                                                                                      قال : إن كان ذلك الكراء عندهم بالنقد دفع الدنانير على ما أحب أو كره ، وإن كان الكراء عندهم على غير النقد فلا خير في هذا إلا أن يعجلها ; لأني سمعت مالكا [ ص: 476 ] وسئل عن الرجل يبتاع من الرجل السلعة يقبضها بدنانير له بالمدينة أو ببلد من البلدان عند قاض أو غيره فقال مالك : إن كان اشترط في بيعه إن تلفت تلك الدنانير كان عليه أن يعطيه دنانير أخرى مثلها فلا بأس بذلك وإلا فلا خير في البيع ولا يجوز فأرى إن كان الكراء ليس ينقد في مثله فلا أرى الكراء جائزا إلا أن يشترط عليه إن تلفت الدنانير فعليه مثلها ، فإن اشترط هذا لم أر بذلك بأسا ، والطعام والعروض لا يصلح هذا الشرط فيها .

                                                                                                                                                                                      ولا يحل أن يشترط إن تلفت كان عليه أن يعطي مثلها ; لأن الطعام والعروض سلع في أيدي الناس ولأن مالكا قد كره أن يباع الطعام الغائب على أنه إن تلف أعطاه مثله والدابة والرأس مثل ذلك ؟

                                                                                                                                                                                      قال مالك في ذلك كله : لا خير فيه إذا بيع بشرط إن تلف أعطاه مثله مكانه والدنانير والدراهم إنما هي عين عند الناس ليست بسلع وهي في أيدي الناس أثمان للسلع فإن اشترط أنها إن هلكت كان عليه بدلها لم يكن بذلك بأس ، فإن لم يشترط فلا خير في ذلك كله ; لأنه اكترى على شيء بعينه لا يدفع إليه إلا إلى أجل بعيد فلا خير في ذلك لأنه لا يدري أتسلم الدنانير إلى ذلك الأجل أم لا تسلم ، وقال غيره في الدنانير : هو جائز وإن تلفت فعليه الضمان .

                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن اكتريت منه إلى مكة بهذا الطعام بعينه أو بهذه العروض بعينها أو بهذه الدنانير بعينها والكراء في موضعنا ليس بالنقد عند الناس فقال الجمال : وقع كراؤنا فاسدا ; لأنه وقع على شيء بعينه ولم يشترط فيه النقد وكراء الناس عندنا ليس بالنقد ، وقال المكتري أنا أعجل السلعة أو الدنانير أو الطعام ولا أفسخ الكراء ، قال : الكراء يفسخ بينهما وإن رضي المتكاري أن يعجل السلعة أو الدنانير أو الطعام ; لأن صفقة الكراء وقعت فاسدة في رأيي . وقال غيره : إلا في الدنانير فإنه جائز وإن تلفت فعليه الضمان .

                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن اكتريت بهذا الطعام بعينه أو بهذا العبد بعينه أو بهذه الثياب بعينها أو بهذه الدابة بعينها أو بهذه الدنانير بعينها واشترطت عليه أن لا أنقده ذلك إلا بعد يوم أو يومين أو ثلاثة ؟ قال : لا يعجبني ذلك إلا أن يكون لذلك وجه مثل الدابة تكون يركبها الرجل اليوم أو اليومين وما أشبهه فلا بأس بذلك .

                                                                                                                                                                                      وقد قال مالك : لا بأس به ، والجارية تخدمه اليوم واليومين ونحو ذلك فلا بأس به وإن كان من ذلك شيء لا يحبس لركوب ولا لخدمة ولا للبس وإنما يحبسه لغير منفعة له فيه فما كان من ذلك إنما يحبسه على وجه الوثيقة حتى يشهد على الكراء أو يكتب كتابا عليه فلا أرى بذلك بأسا وإن لم يكن له في حبسه منفعة إلا هذا فذلك جائز ; لأن الرجل قد يحبس سلعته حتى يستوثق .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن كان لا يحبسه ليشهد ; لأنه قد أشهد ولا يحبسه للبس ولا لركوب ولا [ ص: 477 ] لخدمة ؟

                                                                                                                                                                                      قال : فلا يعجبني أن يشترط حبسه ولا أفسد به البيع ; لأني سألت مالكا عن الرجل يشتري من الرجل بالدنانير الطعام من صبرة بعينها على أن يستوفيه إلى يومين فقال : لا بأس بذلك .

                                                                                                                                                                                      قلت : لأن مالكا قال لي : لو أن رجلا باع جارية أو سلعة إلى أيام على أنه إن لم يأت بالثمن فلا بيع بينهما فقال لي : شرطهما باطل والبيع نافذ لازم لهما أتى به أو لم يأت ويلزم البائع دفعها والمشتري أخذها ويجبر على النقد فهذا يشبه الكراء إذا اشترط حبسه في اليومين والثلاثة ; لأنه قد يكون منافع لكل واحد منهما في حبس اليوم واليومين والثلاثة ; لأن المكتري قد يحب أن يكفى مؤنتها اليوم واليومين وقد يحب المكري أن ينتفع بها اليوم واليومين يؤخر سلعته في يده ليركب أو يحضر حمولته فتكون وثيقة فإذا قرب هذا وما أشبهه فلا أرى أن يفسخ الكراء ، ولا أحب له أن يعقد الكراء على هذا ، وكذلك قال مالك : لا أحب أن يعقد البيع على إن لم يأت بالثمن إلى أيام فلا بيع بيني وبينك فإن وقع البيع جاز بينهما وفسخ الشرط وأرى الثياب إن كانت مما تلبس إذا أراد صاحبها أن يحبسها حتى يستوثق لنفسه وهي مما تلبس ، فلا بأس بذلك وهي مثل ما فسرت لك في الدواب والجارية فأما الدنانير فلا يعجبني إلا أن يخرجها من يده فيضعها رهنا أو يكون ضامنا لها إن تلفت كان عليه بدلها ، وإلا لم يصلح الكراء على هذا .

                                                                                                                                                                                      وقال غيره : لا يضره وإن لم يخرجها ويضعها رهنا ، ألا ترى لو اشترى سلعة بهذه الدنانير بأعيانها فاستحقت الدنانير أن البيع تام وعليه مثل تلك الدنانير ; لأن الدنانير والدراهم عين ، وما سوى الدنانير والدراهم عروض وإن تلفت الثياب قبل أن يدفعها المكتري كان ضمانها منه وفسخ الكراء فيما بينهما ; لأنه من ابتاع ثوبا فحبسه البائع للثمن فهلك كان من بائعه ولأنه من ابتاع حيوانا فاحتبسه البائع للثمن فهكذا كان من المشتري فالمكتري إذا اشترط حبسه للوثيقة أو للمنفعة فهلك كان من الكري ; لأنه أمر يعرف لهلاكه وليس مغيبه عليه معيبا ولأن الدنانير عين لا يصح أن يشترط تأخيرها إلا أن يضمنها إذا ضاعت ، ولا يجوز أن يشترط ضمان ما باع مما بيع إلى يوم أو يومين أو يتكارى به إلا في العين وحدها وإنما فسخت الكراء في الثياب إن احتبسها للوثيقة فهلكت ; لأن الرجل إذا ابتاع الثوب بعينه فهلك قبل أن يدفعه البائع إلى المشتري كان ضمانه من البائع إن لم يقم بينة على تلفه ولم يقل له ائت بثوب مثله وخذ ثمنه ، ولأن من سلف حيوانا أو ثيابا في سلعة إلى أجل مما يجوز السلف فيه فاخترم الحيوان والثياب بطل السلم ولم يكن له عليه شيء قيمة ولا غيرها ; لأن مالكا قال في الحيوان غير مرة ورددت عليه فيمن باعه [ ص: 478 ] فاحتبسه البائع للثمن حتى يدفع إليه الثمن فضاع فهو من المشتري ، ولقد قال لي ابن أبي حازم وهو القضاء عندنا ببلدنا لا يعرف غيره ، وقال غيره : الحيوان أو الثياب وما كان شراؤه على غير كيل أو وزن فاشترط البائع على المشتري أنه يدفعه بعد يوم أو يومين أو نحو ذلك لركوب دابة أو لباس ثوب أو غير ذلك فلا بأس بأن ينقد الثمن في مثل هذا القرية وأنه وإن تلف فهو من المشتري ; لأنه كأنه قبضه وحازه وكان تلفه في يده فكذلك إن باع هذه الأشياء بكراء دابة أو دار وشرط حبسه كما وصفت لك .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية