الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت الحدادين والقصارين والخياطين وأهل الصناعات والحمالين والبغالين وأصحاب السفن ألهؤلاء أن يمنعوا ما عملوا بأجر وما حملوا بكراء يمنعون ما في أيديهم حتى يستوفوا كراءهم وأجر عملهم ؟ قال : قال مالك : نعم لهم أن يمنعوا ذلك حتى يستوفوا كراءهم وأجر عملهم . [ ص: 503 ] قلت : أرأيت إن حبس هذه الأشياء التي سألتك عنها هؤلاء العمالون وهؤلاء الحمالون والبغالون وأصحاب السفن فضاع ذلك منهم بعد ما حبسوه ؟ قال : أما ما ضاع عند أهل الأعمال مثل الصباغين والخياطين ومن ذكرت منهم فلا أجر لهم وعليهم الضمان لازم ; لأن أصل ما أخذوا عليه هذه الأمتعة على الضمان إلا أن تقوم لهم بينة على الضياع فيبرءون من الضمان ولا أجر لهم ; لأنهم لم يسلموا ما عملوا إلى أرباب ذلك المتاع .

                                                                                                                                                                                      وأما الأمتعة التي حملوها من البز وجميع الأشياء ما خلا ما يؤكل ويشرب فلا ضمان عليهم فيه إن ضاع إلا أن يغيبوا عليه ويحوزوه عن أصحابه فيكون بمنزلة الرهن ويكونون ضامنين لما في أيديهم ، وأما ما لم يغيبوا عليه ولم يحوزوه فلا ضمان عليهم فيه ويكون لهم الأجر كاملا إن كان الأكرياء قد بلغوا غايته فضاع في الوجهين جميعا ، وأما الطعام فإن كان ضاع فالأكرياء له ضامنون إلا أن يكون لهم بينة على التلف من غير فعلهم أو يكون أرباب الطعام مع الطعام فلا ضمان عليهم ويكون لهم أجرة كاملة إن كانوا قد بلغوه غايته ، وإن لم يكونوا بلغوه غايته فادعى الأكرياء أنه ضاع بغير بينة لم يصدقوا ، وقيل لهم : عليكم أن تأتوا بطعام مثله إن لم يكن أرباب الطعام معهم ، وإن كانت لهم بينة قيل لأرباب الطعام هلموا طعاما مثله تحمله لكم الجمال إلى منتهى الغاية وعليكم الكراء كاملا ، وهذا كله قول مالك إلا ما كان من السفن على البلاغ فإن مالكا قال : إذا غرقت فليس لها كراء وجعل كراء السفن على البلاغ .

                                                                                                                                                                                      قال مالك : وما استحمل في السوق مما يحمل الرجل على عنقه والبغال التي تحمل فتعثر الدابة ويعثر الرجل فيسقط فينكسر ما عليه أو يحمله إلى بلد من البلدان فيعثر البعير أو يأتي من سبب الدابة أمر يكون ذهاب ما عليها من سببها فسبيله سبيل السفن لا كراء لهم ; لأنهم كأنهم إنما حملوه على البلاغ فلا كراء لهم ، وكذلك قال مالك : وسبيلهم في الضمان فيما حملوا سبيل ما حمل الجمالون والبغالون من بلد إلى بلد .

                                                                                                                                                                                      قلت : وهذا كله قول مالك ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم ، وقال غيره : ليس هذا مثل السفن لا ضمان عليهم فيما كان من سبب العثار من الدابة وغيرها ولهم على أرباب المتاع أن يحملوهم حتى يبلغوا الغاية فيقبضوا الكراء وما عثرت به الدابة أو غيرها بمنزلة ما يصيبه من حريق أو سيل أو عدا اللصوص فعلى أرباب المتاع أن يحملوهم مثل ذلك وإلا أعطوهم الكراء تاما ، وذلك إذا لم يغر الأكرياء بالعثار فإنهم إن غروا ضمنوا .

                                                                                                                                                                                      وكان ابن نافع يقول في السفن : لها بحساب ما بلغت .

                                                                                                                                                                                      قال : وقال مالك في الرجل يكتري على روايا من زيت تحمل له من بلد إلى بلد [ ص: 504 ] فيعثر البعير فتنشق الروايا فيذهب ما فيها أله كراء فيما حمل ؟

                                                                                                                                                                                      قال مالك : لا كراء له فيما حمل ولا ضمان عليه إلا أن يكون غره من دابته فيضمن .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : وأرى ما سرق من ذلك ببينة أو غصبه لصوص فإنه لا يشبه ما عثرت به الدابة ; لأن سببه لم يأت من قبل ما تكارى عليه وعليه أن يأتي بمثله يحمله ويكون له أجره كاملا فإن الذي كان من سبب الدابة إنما كان من سبب ما استحمله عليه فليس له على المكري غرم وليس على المكتري أن يأتي بمثله ; لأن الكري هو الذي أتلفه ووضع عنه ضمانه ; لأنه لم يتعمد تلفه ولم يغر من شيء إلا أن يكون غر من بعض ما حمل له عليه فيضمن .

                                                                                                                                                                                      قلت : والطعام والسمن والدهن والقوارير وهذه الأشياء إن انكسرت من سبب البعير أهي بهذه المنزلة ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم في رأيي ، قال : وما حمل في السفن أو على الدواب أو على أعناق الرجال من بلد إلى بلد أو في المصر فأتى تلف ذلك من قبل ما عليه حملت هذه الأشياء فلا كراء له ولا ضمان عليه .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية