الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      رسم في مصالحة بعض الورثة عن مال الميت قلت : أرأيت لو أن رجلا هلك وقد كان بينه وبين رجل خلطة فادعى ولد الهالك أن لأبيهم على هذا الرجل الذي كان بينه وبين أبيهم خلطة مالا فأقر أو أنكر فصالحه [ ص: 380 ] أحدهم على حقه فدفع إليه دنانير أو دراهم أو دفع إلى أحدهم من دعواه عرضا من العروض على إنكار من الذي يدعي قبله أو على إقرار أيكون لإخوته أن يدخلوا معه في الذي أخذ من هذا الرجل ؟

                                                                                                                                                                                      قال : قال لي مالك : كل ذكر حق كان لقوم بكتاب واحد فاقتضى بعضهم دون بعض ، فإن شركاءهم يدخلون معهم فيما اقتضوا وإن كان لكل إنسان منهم ذكر حق على حدة وكانت صفقة واحدة ، فإن من اقتضى شيئا من حقه لا يدخل معه الآخر في شيء .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : وإذا كان للرجلين ذكر حق بكتاب واحد أو بغير كتاب من بيع باعاه بعين أو بشيء مما يكال أو يوزن غير الطعام والإدام أو من شيء أقرضاه من الدنانير والدراهم والطعام أو شيء مما يكال أو يوزن أو ورث هذان الرجلان هذا الذكر الحق فقبض أحدهما من ذلك شيئا ؟

                                                                                                                                                                                      قال : فإن كان الذي عليه الدين غائبا فسأل أحد الشريكين في الدين صاحبه في الخروج معه لاقتضاء الدين وأخذه من الغريم فأبى ذلك وكره الخروج ، فإن خرج الشريك بعد الإعذار فيما بينه وبين صاحبه فاقتضى حقه أو أدنى من ذلك فأرى ذلك له ولا يدخل معه شريكه لأن تركه الخروج والاقتضاء والتوكيل بالاقتضاء إضرار منه لصاحبه وحول بينه وبين الاقتضاء ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا ضرر ولا ضرار } لما يتجشم صاحبه من الخروج والنفقة والمؤنة ، فيريد المقيم أن لا يأخذ الخارج شيئا لا يدخل عليه منه وهو لم يبرح ولم يتجشم خروجا ولا مؤنة وقد أعذر إليه صاحبه ولم يدخل في الخروج لاغتنام الاقتضاء دونه فهو إذا أعذر إليه وأعلمه بالخروج فترك الخروج معه رضا منه بما يقبض دونه ; أو لا ترى لو أنه رفعه إلى السلطان لأمره السلطان بالخروج أو التوكيل فإن فعل وإلا خلى السلطان بين الشريك وبين اقتضاء حقه ثم لا يدخل عليه شريكه فيما اقتضى ، وإن خرج أحد الشريكين لاقتضاء حقه دون مؤامرة من صاحبه والإعذار إليه أو كان الغريم حاضرا فاقتضى منه جميع مصابته أو بعضها كان شريكه بالخيار إن شاء شركه فيما اقتضى وإن شاء أسلم له ما اقتضى واتباع الغريم ، فإن اختار اتباع الغريم ثم بدا له بعد أن يتبع شريكه لم يكن ذلك له بعد ما سلم - توى ما على الغريم أو لم يتو - لأن ذلك مقاسمة للدين على الغريم ، ألا ترى لو أن رجلين ورثا دينا على رجل فاقتسما ما عليه جاز ذلك وصار ذلك كالدين يكون لهما على رجل لكل واحد منهما صك على حدة .

                                                                                                                                                                                      فمن اقتضى من هذين شيئا دون صاحبه لم يكن يشركه صاحبه فيما اقتضى لأنه لا شركة بينهما ، فكذلك إذا اقتسما ، ولو أن أحد الرجلين اللذين لهما ذكر حق بكتاب واحد أو بغير كتاب فهما شريكان في الدين الذي على الغريم صالح [ ص: 381 ] أحدهما على الغريم وهو حاضر ليس بغائب ، أو كان الغريم غائبا ولم يعذر إلى صاحبه ولم يعلمه بالخروج على اقتضاء حقه مثل أن يكون دينهما مائة دينار فصالحه أحدهما من نصيبه على عشرة دنانير وأبرأه مما بقي فهو جائز وفيهما قولان : أحدهما أن شريكه بالخيار إن شاء أسلم لشريكه ما اقتضى واتبع الغريم بالخمسين دينارا حقه ، وإن شاء رجع على شريكه وأخذ منه نصف ما في يديه وهو خمسة ورجعا جميعا على الغريم فاتبعه الذي لم يصالح بخمسة وأربعين واتبعه الذي صالح بخمسة دنانير وهي التي أخذ منه شريكه وهو قول ابن القاسم .

                                                                                                                                                                                      والقول الآخر أن شريكه بالخيار إن شاء تبع الغريم بجميع حقه ، وإن شاء تبع شريكه المصالح ، وإن اختار اتباع شريكه قسمت العشرة التي صالح بها الشريك على ستة أجزاء : جزء من ذلك للذي صالح وخمسة أجزاء للذي لم يصالح لأن المصالح لما أبرأ الغريم من الأربعين التي أخر كأنه لم يكن له إلا العشرة الدنانير التي أخذ ولصاحبه خمسون دينارا ثم يرجعان على الغريم فيتبعه المصالح بالعشرة بما أخذ منه وذلك خمسة أسداس العشرة ويتبعه صاحب الخمسين بما بقي له ، وهو أحد وأربعون دينارا وثلثا دينار ، وذلك لو أنه قبض العشرة بغير صلح ثم حط الأربعين عن الغريم ثم قام شريكه فإن اختار مقاسمة شريكه اقتسما على ستة أجزاء كما وصفت لك ورجع على الغريم كما وصفت لك ، ولو أن أحد الشريكين قبض العشرة على الاقتضاء من حقه ليس على الحط ، ثم قاسمه شريكه العشرة الذي اقتضى هو من حقه فإنما يقاسمه إياها شطرين لأن حق كل واحد منهما سواء ، وإن حط الشريك المقتضي للعشرة الأربعين لم يكن لشريكه أن يرجع إليه في المقاسمة فيقول : قاسمني على أن حقك إنما كان عشرة ; ألا ترى أن القسم كان والحق كامل ولكنهما يرجعان على الغريم فيرجع المقتضي للعشرة بما أخذ منه شريكه وهو خمسة ، ويرجع شريكه بخمسة وأربعين ، فخذ هذا على هذا إن شاء الله .

                                                                                                                                                                                      ولو أن أحد الرجلين اللذين لهما ذكر حق بكتاب واحد أو بغير كتاب واحد وهما شريكان في الدين الذي على الغريم فصالح الغريم أحدهما وهو حاضر أو كان الغريم غائبا ولم يعذر إلى صاحبه ولم يعلمه بالخروج صالح من حقه ودينهما مائة دينار على عشرة أقفزة قمح أو باع حقه بعشرة أقفزة قمح فقبضها قبل أن يتفرقا ثم أتى الشريك الآخر فإنما له الخيار في تسليم ما صنع صاحبه واتباع الغريم بحصة الخمسين الدينار أو الرجوع على شريكه المصالح أو المشتري القمح بنصف ما أخذ لأن الشريك إنما تعدى على عين وهو جائز ، والدين حكمه حكم القرض ، والدين ليس مثل العين ، الدين أشبه شيء هي بالعروض ، فلذلك يكون له نصف ما أخذ الشريك إن اختار أخذه وإن لم يكن له عليه شيء من العين . [ ص: 382 ] قال سحنون : ثم يرجعان جميعا على الغريم فيكون ما عليه بينهما نصفين وإنما لم يخالف الصلح في هذا الموضع الشراء لأن الصلح أشبه شيء بالشراء في غير وجه ، وهو في هذا الوجه مثله . ألا ترى أن الرجل لو كان له على رجل مائة دينار دينا فصالحه من المائة على سلعة أو اشترى منه سلعة بالمائة لم يجز له أن يبيع مرابحة حتى يبين فكذلك جميع الدين إذا كان عينا فصالح من بعضها على بعض بينوا نوع الدين أو اشترى ذلك وهو على ما وصفت لك ، ولو كان الذي سوى العين وهو مما يكال أو يوزن من غير الطعام أو الإدام أو كان من العروض التي لا تكال ولا توزن مثل أن يكون لهما مائة رطل حناء أو مائة ثوب شطوي موصوفة معروفة فصالح أحدهما من نصيبه على دنانير فصالحه من الخمسين الرطل الحناء أو الخمسين الثوب الشطوي على عشرة دنانير وقبضها منه قبل أن يتفرقا ثم حضر شريكه فهو بالخيار إن شاء اتبع الغريم بجميع حقه ويسلم لصاحبه ما أخذ ثم لا يكون له الرجوع على شريكه - وإن توى ما على الغريم - وإن شاء اتبع شريكه فأخذ منه نصف ما في يديه لأن ما في يديه ثمن سلعة هي بينهما ومن تعدى على سلعة رجل فباعها فللمتعدى عليه أن يأخذ ثمن سلعته ثم يرجعان على الغريم فيتبعانه بما بقي لهما عليه من حقوقهما وهي الخمسون الرطل الحناء والخمسون الثوب الشطوي .

                                                                                                                                                                                      وكذلك الجواب أن لو باع مصابته بعشرة دنانير لأن الصلح والبيع في هذا الموضع سواء لما أعلمتك من أن الرجل لو كان له على الرجل مائة دينار دينا فصالحه من المائة على سلعة أو اشترى منه سلعة بالمائة لم يجز أن يبيع له مرابحة حتى يبين ، ومن ذلك لو أن لرجل على رجل مائة دينار فرهنه بها شيئا مما يغاب عليه مما يضمنه المرتهن وقيمته مثل الدين أو أكثر أو أقل ، ثم إن الراهن صالح المرتهن على ألف درهم أو اشترى الراهن من المرتهن المائة الدينار التي عليه بألف درهم ونقده قبل أن يفترقا ثم تلف الرهن فادعى المرتهن بعد المصالحة أو الشراء أو قبل ذلك أن الرهن قد تلف ، فالصلح بينهما والبيع جائز ليس بمنقوض ويرجع على المرتهن بقيمة الرهن وإن كان تلف الرهن بعد المصالحة أو الشراء أو قبل ذلك بأمر معروف تقوم عليه بينة يوما تم ما كان بينهم من صلح أو بيع ولم يكن على المرتهن شيء .

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية