الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الأمر الثالث : العمارة ، فإذا هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن صاحبه لاستهدامه ، أو لغيره ، ففي " التهذيب " وغيره : أن النص إجبار الهادم على إعادته ، وأن القياس : أنه يغرم نقضه ولا يجبر على البناء ؛ لأن الجدار ليس مثليا .

                                                                                                                                                                        قلت : قد ذكر صاحب " التنبيه " وسائر العراقيين وطائفة من غيرهم ، فيما إذا استهدم ، فهدمه أحدهما بلا إذن ، طريقين . أصحهما : القطع بإجباره على إعادة مثله . والثاني : فيه القولان السابقان في الإجبار ابتداء ، أحدهما عليه إعادة مثله ، والثاني : لا شيء . وقطع إمام الحرمين في أواخر باب ( ثمرة الحائط يباع أصله ) بأن من هدم حائط غيره عدوانا ، يلزمه أرش ما نقص ، ولا يلزمه بناؤه ؛ لأنه ليس بمثلي ، والمذهب ما نص عليه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو انهدم الجدار بنفسه ، أو هدماه معا لاستهدامه أو غيره ، وامتنع أحدهما [ ص: 216 ] من العمارة ، فقولان . القديم : إجباره عليها دفعا للضرر وصيانة للأملاك المشتركة عن التعطيل . والجديد : لا إجبار ، كما لا يجبر على زرع الأرض المشتركة ، ولأن الممتنع يتضرر أيضا بتكليفه العمارة . ويجري القولان في النهر ، والقناة ، والبئر المشتركة ، إذا امتنع أحدهما من التنقية والعمارة .

                                                                                                                                                                        قلت : لم يبين الإمام الرافعي الأظهر من القولين ، وهو من المهمات . والأظهر عند جمهور الأصحاب ، هو جديد . ممن صرح بتصحيحه : المحاملي ، والجرجاني ، وصاحب " التنبيه " وغيرهم . وصحح صاحب " الشامل " القديم ، وأفتى به الشاشي . وقال الغزالي في " الفتاوى " : الأقيس ، أن يجبر . وقال : والاختيار إن ظهر للقاضي أن امتناعه مضارة أجبره ، وإن كان لإعسار أو غرض صحيح أو شك فيه لم يجبر . وهذا التفصيل الذي قاله ، وإن كان أرجح من إطلاق القول بالإجبار ، فالمختار الجاري على القواعد : أن لا إجبار مطلقا . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو كان علو الدار لواحد ، وسفلها لآخر ، فانهدمت ، فليس لصاحب السفل إجبار صاحب العلو على معاونته في إعادة السفل وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السفل على إعادته ليبني عليه ؟ فيه القولان . وقيل : القولان فيما إذا انهدم ، أو هدما ، فلا شرط . أما لو استهدم ، فهدمه صاحب السفل بشرط الإعادة ، فيجبر قطعا . ويجري القولان ، فيما إذا طلب أحدهما اتخاذ سترة بين سطحيهما ، هل يجبر الآخر على مساعدته ؟

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا : ويجريان فيما لو كان بينهما دولاب وتشعث واحتاج إلى إصلاحه - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 217 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا بالقديم ، فأصر الممتنع ، أنفق الحاكم عليه من ماله . فإن لم يكن له مال ، اقترض عليه ، أو أذن الشريك في الإنفاق عليه ، ليرجع على الممتنع . فلو استقل به للشريك ، فلا رجوع على المذهب . وقيل : قولان . القديم : نعم . والجديد : لا . وقيل : يرجع في القديم . وفي الجديد قولان ، وقيل : إن لم يمكنه عند البناء مراجعة الحاكم رجع ، وإلا فلا . ثم إذا بناه ، إن كان بالآلة القديمة ، فالجدار بينهما كما كان . والسفل في الصورة الأخرى لصاحبه كما كان ، وليس لصاحب العلو نقضه ولا منعه من الانتفاع بملكه . وإن بناه بآلة من عنده ، فالمعاد ملكه ، وله نقضه . فلو قال الشريك : لا تنقض وأغرم لك نصف القيمة ، لم يجز له النقض ، لأنا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة ، فالاستدامة أولى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا بالجديد ، فأراد الطالب الانفراد بالعمارة ، نظر ، إن أرادها بالنقض المشترك ، أو أراد صاحب العلو إعادة السفل بنقض صاحب الأسفل ، أو بآلة مشتركة ، فللآخر منعه . وإن أراد بناءه بآلة من عنده ، فله ذلك ليصل إلى حقه . ثم المعاد ملكه ، يضع عليه ما شاء ، وينقضه إذا شاء . فلو قال شريك الجدار : لا تنقض لأغرم لك نصف القيمة ، أو قال صاحب السفل : لا تنقض لأغرم لك القيمة ، لم يلزمه إجابته على هذا القول كابتداء العمارة . ولو قال صاحب السفل : انقض ما أعدته لابنيه بآلة نفسي . فإن كان طالبه بالبناء ، فامتنع ، لم يجبره ، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه ، لم يجب ، لكن له أن يتملك السفل بالقيمة ، ذكره في [ ص: 218 ] " التهذيب " ، وإن لم يبن عليه العلو ، أجيب صاحب السفل ، ومتى بنى بآلة نفسه ، فله منع صاحبه من الانتفاع بالمعاد ، بفتح كوة وغرز وتد ونحوهما ، وليس له منع صاحب السفل من السكون على الصحيح ؛ لأن العرصة ملكه . ولو أنفق على البئر والنهر ، فليس له منع الشريك من الانتفاع بالماء لسقي الزرع وغيره ، وله منعه من الانتفاع بالدولاب والبكرة المحدثين . ولو كان للممتنع على الجدار المنهدم جذوع ، فأراد إعادتها بعد أن بناه الطالب بآلة نفسه ، لزمه تمكينه ، أو نقض ما أعاد ليبني معه الممتنع ، ويعيد جذوعه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية