الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في الاختلاف

                                                                                                                                                                        وفيه مسائل .

                                                                                                                                                                        الأولى : قال راكب الدابة لمالكها : أعرتنيها . فقال : بل أجرتكها مدة كذا بكذا ، فتارة يختلفان والدابة باقية ، وتارة يختلفان وهي تالفة .

                                                                                                                                                                        الحال الأول : الباقية ، وهو ضربان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : يختلفان بعد مضي مدة لمثلها أجرة .

                                                                                                                                                                        والثاني : قبلها . فالأول نص فيه أن القول قول الراكب بيمينه . ونص فيما إذا زرع أرض غيره واختلفا هكذا - أن القول قول صاحب الأرض . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وللأصحاب طريقان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : تقرير النصين ، واختاره القفال ؛ لأن الدواب تكثر فيها الإعارة ، بخلاف الأرض . وأصحهما عند الجمهور ، وبه قال المزني ، والربيع ، وابن سريج : فيهما قولان . أظهرهما : القول قول المالك ، فعلى هذا كيف يحلف ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قال الشيخ أبو محمد وطائفة : يحلف على نفي الإعارة ، ولا يتعرض لإثبات [ ص: 443 ] الأجرة ؛ لأنه مدع فيها . وقال العراقيون والقاضي والأكثرون : يتعرض لإثبات الأجرة مع نفي الإعارة . فعلى الأول : إذا حلف ، استحق أقل الأمرين من أجرة المثل والمسمى . وعلى الثاني : أوجه . أحدها : يستحق المسمى .

                                                                                                                                                                        والثاني : أقل الأمرين . وأصحها وهو نصه في " الأم " : أجرة المثل . فلو نكل المالك عن اليمين ، لم يحلف الراكب والزارع ، لأنهما لا يدعيان حقا على المالك ، وإنما يدعيان الإعارة وليست لازمة . وعن القاضي حسين رمز إلى أنهما يحلفان للتخلص من الغرم ، أما إذا قلنا : القول قول الراكب والزارع ، فإن حلف على نفي الإجارة ، كفاه وبرئ ، وإن نكل ، ردت اليمين على المالك ، واستحق بيمينه المسمى على الصحيح ، وعلى الشاذ أجرة المثل .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أن يقع الاختلاف قبل مضي مدة لها أجرة ، فالقول قول الراكب بيمينه . فإذا حلف على نفي الإجارة ، سقطت دعوى الأجرة ، وردت العين إلى المالك . وإن نكل ، حلف المالك يمين الرد ، واستحق الأجرة . وإنما لم يجر القولان ؛ لأن الراكب لا يدعي لنفسه حقا ، ولم تتلف المنافع على المالك .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن تكون الدابة تالفة ، فإن تلفت قبل مضي مدة لها أجرة ، فالراكب مقر بالقيمة ، والمالك ينكرها ويدعي الأجرة ، فيخرج على الخلاف السابق في كتاب الإقرار : أن اختلاف الجهة ، هل يمنع الأخذ ؟ إن قلنا : نعم ، سقطت القيمة برده . وفيمن القول قوله في الأجرة ، الطريقان في الحال الأول . وإن قلنا : لا ، فإن كانت الأجرة مثل القيمة أو أقل ، أخذها بلا يمين . وإن كانت أكثر ، أخذ قدر القيمة . وفي المصدق في الزائد الخلاف السابق .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : قال المتصرف : أعرتني هذه الدابة أو الأرض ، فقال المالك : بل غصبتنيها ، فإن لم تمض مدة لها أجرة ، فلا معنى للمنازعة ، فيرد المال إلى مالكه . وإن مضت مدة لها أجرة ، فنقلالمزني : أن القول قول المستعير . وللأصحاب [ ص: 444 ] طرق . أصحها : أنها على الطريقين في المسألة الأولى ، ففي طريق : يفرق بين الأرض والدابة . وفي طريق : هما على قولين .

                                                                                                                                                                        والطريق الثاني : القطع بأن القول قول المتصرف ؛ لأن الظاهر أنه تصرف بحق .

                                                                                                                                                                        والثالث : القطع بأن القول قول مالكه ؛ لأن الأصل عدم إذنه . ومن قال بهذا ، خطأ المزني في النقل . قال الشيخ أبو حامد : لكنه ضعيف ؛ لأن الشافعي رضي الله عنه نص في " الأم " على ما نقله المزني ، هذا إذا كانت العين باقية . فلو تلفت ، نظر ، إن تلفت بعد مدة لها أجرة ، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة بالغصب ، والمتصرف ينكر الأجرة ويقر بالقيمة بجهة العارية ، فالحكم في الأجرة على ما ذكرنا عند بقاء العين . وأما القيمة ، فقال البغوي : إن قلنا : اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، لم يأخذها إلا باليمين ، وإلا فإن قلنا : العارية تضمن ضمان الغصب ، أو لم نقل به ، وكانت القيمة يوم التلف أكثر ، أخذها بلا يمين ، وإن كانت يوم التلف أقل ، أخذها بلا يمين ، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين . وإن هلكت قبل مدة لها أجرة ، لزمه القيمة . ثم قياس ما ذكره البغوي : أنا إن جعلنا اختلاف الجهة مانعا من الأخذ ، حلف ، وإلا فيأخذ بلا يمين ، ومقتضى كلام الإمام : أن لا يخرج على ذلك الخلاف ، لا هذه الصورة ، ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مدة لها أجرة ، قال : لأن العين متحدة ولا أثر للاختلاف في الجهة مع اتحاد العين .

                                                                                                                                                                        والأول أصح .

                                                                                                                                                                        الثالثة : قال المالك : غصبتنيها ، وقال المتصرف : بل أجرتني ، فالمذهب : أنه إن كانت العين باقية ، ولم تمض مدة لها أجرة ، فالمصدق المالك . فإذا حلف ، استرد المال . وإن مضت مدة لها أجرة ، فالمالك يدعي أجرة المثل ، والمتصرف يقر بالمسمى . فإن استويا ، أو كانت أجرة المثل أقل ، أخذ بلا يمين . وإن كانت أجرة المثل أكثر ، أخذ قدر المسمى بلا يمين ، والزيادة باليمين . قال البغوي : ولا يجيء هنا خلاف اختلاف الجهة ، كما لو ادعى المالك فساد الإجارة ، والمتصرف صحتها ، [ ص: 445 ] يحلف المالك ، ويأخذ أجرة المثل . وإن كان الاختلاف بعد بقاء العين في يد المتصرف مدة ، وتلفها ، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة ، والمتصرف يقر بالمسمى وينكر القيمة ، فللمالك أخذ ما يقر به بلا يمين . وأخذ ما ينكره باليمين .

                                                                                                                                                                        الرابعة : قال المالك : غصبتني ، وقال صاحب اليد : بل أودعتني ، حلف المالك على الأصح ، وأخذ القيمة إن تلف المال ، وأجرة المثل إن مضت مدة لها أجرة .

                                                                                                                                                                        الخامسة : قال الراكب : أكريتنيها ، وقال المالك : بل أعرتكها ، والدابة باقية ، فالقول قول المالك في نفي الإجارة . فإذا حلف ، استردها . فإن نكل ، حلف الراكب واستحق الإمساك . ثم إن مضت مدة لها أجرة ، فالراكب يقر بالأجرة ، والمالك ينكرها ، ولا يخفى حكمه . وإن كان هذا الاختلاف بعد هلاك الدابة ، فإن هلكت عقب القبض ، فالمذهب : أن المالك يحلف ، ويأخذ القيمة ؛ لأن الراكب أتلفها ، ويدعي مسقطا . وخرج قول في المسألة الأولى : أن القول قول الراكب ؛ لأن الأصل براءته ، وإن تلفت بعد مدة لها أجرة ، فالمالك يدعي القيمة وينكر الأجرة ، والراكب يقر بالأجرة وينكر القيمة . فإن قلنا : اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، حلف وأخذ القيمة ، ولا عبرة بإقرار الراكب . وإن قلنا : لا يمنع ، وهو الأصح ، فإن كانت القيمة والأجرة سواء ، أو كانت القيمة أقل ، أخذها بلا يمين . وإن كانت القيمة أكثر ، أخذ الزيادة باليمين .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية