الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4553 328 - ( حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر بن الخطاب عن شيء ، فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : ثكلت أم عمر ، نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس ، وخشيت أن ينزل في القرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن ، فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة ، وأسلم مولى عمر بن الخطاب كان من سبي اليمن ، وقال الواقدي : أبو زيد الحبشي البجاوي من بجاوة .

                                                                                                                                                                                  وهذا الحديث مضى في المغازي ، في باب غزوة الحديبية ، فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك إلى آخره ، ومضى الكلام فيه هناك ، ولنتكلم هنا أيضا لبعد المسافة فنقول : هذا صورته صورة الإرسال ; لأنأسلم لم يدرك زمان هذه القصة ، لكنه محمول على أنه سمع من عمر ، بدليل قوله في أثناء الحديث : فحركت بعيري ، وقال الدارقطني : رواه عن مالك ، عن زيد ، عن أبيه ، عن عمر متصلا بمحمد بن خالد بن عثمة ، وأبو الفرج عبد الرحمن بن غزوان ، وإسحاق الحنيني ، ويزيد ابن أبي حكيم ، ومحمد بن حرب المكي ، وأما أصحاب ( الموطأ ) فرووه عن مالك مرسلا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " في بعض أسفاره " قال القرطبي : وهذا السفر كان ليلا منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، لا أعلم بين أهل العلم في ذلك خلافا ، قوله : " ثكلت أم عمر " في رواية الكشميهني : ثكلتك أم عمر ، من الثكل ، وهو فقدان المرأة ولدها ، وامرأة ثاكل وثكلى ، ورجل ثاكل وثكلان، وكأن عمر - رضي الله تعالى عنه - [ ص: 176 ] دعا على نفسه حيث ألح على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن الأثير : كأنه دعا على نفسه بالموت ، والموت يعم كل أحد ، فإذا الدعاء عليه كلا دعاء ، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء ، كقولهم : تربت يداك ، وقاتلك الله ، قوله : " نزرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بالنون وتخفيف الزاء وبالراء ، أي ألححت عليه وبالغت في السؤال ، ويروى بتشديد الزاي ، والتخفيف أشهر ، وقال ابن وهب : أكرهته ، أي أتيته بما يكره من سؤالي ، فأراد المبالغة ، والنزر : القلة ، ومنه البئر النزور القليل الماء ، قال أبو ذر : سألت من لقيت من العلماء أربعين سنة فما أجابوا إلا بالتخفيف ، وكذا ذكره ثعلب وأهل اللغة ، وبالتشديد ضبطها الأصيلي ، وكأنه على المبالغة ، وقال الداودي : نزرت : قللت كلامه ، أو سألته فيما لا يحب أن يجيب فيه .

                                                                                                                                                                                  وفيه أن الجواب ليس لكل الكلام ، بل السكوت جواب لبعض الكلام ، وتكرير عمر - رضي الله تعالى عنه - السؤال إما لكونه ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسمعه ، وإما لأن الأمر الذي كان يسأل عنه كان مهما عنده ، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أجابه بعد ذلك ، وإنما ترك إجابته أولا لشغله بما كان فيه من نزول الوحي ، قوله : " فما نشبت " بكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة أي : فما لبثت ولا تعلقت بشيء غير ما ذكرت ، قوله : " لهي أحب إلي " اللام فيه للتأكيد ، وإنما كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها ; لما فيها من مغفرة ما تقدم وما تأخر ، والفتح والنصر وإتمام النعمة وغيرها من رضاء الله - عز وجل - عن أصحاب الشجرة ونحوها ، وقال ابن العربي : أطلق المفاضلة بين المنزلة التي أعطيها وبين ما طلعت عليها الشمس ، ومن شرط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى ثم يزيد أحدهما على الآخر ، وأجاب ابن بطال : بأن معناه أنها أحب إليه من كل شيء ; لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة ، فأخرج الخبر عن ذكر الشيء بذكر الدنيا ، إذ لا شيء سواها إلا الآخرة ، وأجاب ابن العربي بما ملخصه : أن أفعل قد لا يراد فيه المفاضلة ، كقوله خير مستقرا وأحسن مقيلا ولا مفاضلة بين الجنة والنار ، أو الخطاب وقع على ما استقر في أنفس أكثر الناس ، فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها وأنها المقصود ، فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أن لا شيء أفضل منه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية