الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : والضحية نسك مأذون في أكله وإطعامه وادخاره .

                                                                                                                                            [ ص: 115 ] قال الماوردي : أما الضحايا والهدايا فحكمها في جميع ما قدمناه سواء ، وإنما يختلفان في المحل ، فمحل الهدي الحرم ، لقول الله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق [ الحج : 33 ] . ومحل الضحايا في بلد المضحي ، وهل يتعين عليه ذبحها فيه أم لا ؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قولي الشافعي في تفريق الزكاة في غير بلد المالك هل يجزئ أم لا ؟ على قولين .

                                                                                                                                            فإن قيل : لا تجزئ ، تعين عليه ذبح الأضحية في بلده ، فإن ذبحها في غير بلده لم يجزه .

                                                                                                                                            وإن قيل : تفريقها في غير بلده يجزئ ، لم يتعين عليه ذبح الأضحية في بلده ، وكان ذبحها في بلده أفضل ، وفي غير بلده جائز .

                                                                                                                                            فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حالها بعد الإيجاب إيجابها أن تكون عن نذر أو تطوع ، فأما التطوع فهو ما ابتدأ إيجابه فقال : قد جعلت هذه البدنة أضحية ، فيجب أن يذبحها في أيام النحر ، وكذلك الهدي ثم يسلك بها مسلك الأضحية ، وذلك مشتمل على أربعة أحكام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يأكل منها .

                                                                                                                                            والثاني : أن يطعم الفقراء .

                                                                                                                                            والثالث : أن يهدي إلى الأغنياء .

                                                                                                                                            والرابع : أن يدخر قال الله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ الحج : 36 ] . فنص في هذه الآية على ثلاثة أحكام على أكله ، وإطعام الفقراء ، ومهاداة الأغنياء .

                                                                                                                                            القول في ادخار لحوم الأضاحي

                                                                                                                                            وأما الادخار ، فالأصل ما رواه الشافعي عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ادخروا الثلث ، وتصدقوا بما بقي ، قالت : فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم يحملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قيل : يا رسول الله : نهيت عن اقتناء لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فقال رسول الله : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا ، فاشتمل هذا الحديث على [ ص: 116 ] تحريم ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث لأجل الدافة ثم على إباحة الادخار بعد الدافة ، والدافة النازلة يقال : دف القوم موضع كذا إذا نزلوا فيه ، فاختلف أصحابنا في معنى هذا النهي والإباحة على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه نهي تحريم على العموم في المدينة التي دف البادية إليها وفي غيرها حرم به ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث في جميع البلاد ، وعلى جميع المسلمين ، وكانت الدافة سببا للتحريم ولم تكن علة للتحريم ، ثم وردت الإباحة بعدها نسخا للتحريم ، فعمل جميع الصحابة بالنسخ إلا علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإنه بقي على حكم التحريم في المنع من ادخارها بعد ثلاث ولم يحكم بالنسخ ، لأنه لم يسمعه .

                                                                                                                                            وقد روى الشافعي ، عن مالك ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة ثم قال : كلوا وتزودوا وادخروا فعلى هذا إذا دف قوم إلى بلد من فاقة لم يحرم ادخارهم لحوم الأضاحي لاستقرار النسخ .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه نهي تحريم خاص لمعين حادث اختص بالمدينة ومن فيها دون غيرهم لنزول الدافة عليهم ، وكانت الدافة علة لتحريم ، ثم ارتفع التحريم بارتفاع موجبه ، وكانت إباحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إخبارا عن السبب ولم تكن نسخا ، فعلى هذا اختلف أصحابنا إذا حدث مثله في زماننا ، فدف ناس إلى الفاقة ، فهل يحرم على أهله ادخار لحوم الأضاحي لأجلهم لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يحرم عليهم لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد رسول الله .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يحرم ، لأن التعليل بالدافة كان لزمان على صفة فصار مقصورا عليه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية