الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 51 ] مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وما نالته الجوارح فقتلته ولم تدمه احتمل معنيين : أحدهما أن يؤكل حتى يجرح قال الله تعالى : من الجوارح والآخر أنه حل قال المزني الأول أولاهما به قياسا على رامي الصيد أو ضاربه لا يؤكل إلا أن يجرحه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في رجل أرسل كلبه أو غيره من الجوارح على صيد ، فمات الصيد بإرساله عليه ، فلا يخلو حال موته من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يتعبه الكلب بالسعي عليه حتى يسقط الصيد ميتا بالإعياء من غير أن يجرحه الكلب ، فهذا ميتة لا يؤكل : لأنه لم يصل إليه فعل يكون تذكية .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يناله الكلب ، فيعقره ، فيموت من عقره وجراحته ، فيحل أكله سواء جرحه بأنيابه أو بمخالبه في مقتل أو غير مقتل من رأس أو ذنب : لقول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] .

                                                                                                                                            فاختلف أصحابنا في موضع عقر الكلب ، هل يحل أكله أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يحل أكله سواء كان قد غسله أو لم يغسله ، ويأكل ما عداه من جسده : لأن لعاب الكلب ونجاسة أنيابه تسري في محله فلا يصل إليه الغسل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يحل أكله ، لأنه من جملة حكم بإباحتها من غير استثناء ، فعلى هذا هل يجب غسله قبل أكله أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجب غسله قياسا على محل ولوغه ، ولا يحل أكله قبل الغسل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجب غسله : للحوق المشقة فيه ، فصار عفوا كسائر ما يشتق التحرز منه من جميع الأنجاس .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يكون موت الصيد بصدمة الكلب أو بضغطته أو بقوة إمساكه من غير أن يعقره بجرح من ناب أو مخلب ، ففي إباحة أكله قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو اختيار المزني ، ورواه أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر عن أبي حنيفة أنه حرام لا يؤكل .

                                                                                                                                            والقول الثاني : ورواه الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة أنه حلال يؤكل .

                                                                                                                                            فدليل القول الأول في تحريمه قوله تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ المائدة : 4 ] فجعل الجرح نعتا ، فصار في الإباحة شرطا .

                                                                                                                                            وروى رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا فدل على أن ما لم ينهر لا يؤكل : ولأن قتل الصيد قد أبيح بآلة وبجوارح ، فلما لم يحل [ ص: 52 ] صيد الآلة إلا بعقره وجب أن لا يحل صيد الجوارح إلا بعقره : لأنه أحد النوعين ، فكان العقر شرطا في الحالين .

                                                                                                                                            ودليل القول الثاني في إباحته قول الله تعالى : وما علمتم من الجوارح مكلبين يريد به الجوارح الكواسب كما قال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات [ الجاثية : 21 ] أي اكتسبوا ثم قال : فكلوا مما أمسكن عليكم [ المائدة : 4 ] فكان على عمومه في كل إمساك عقر أو لم يعقر ، ولأن شروط الذكاة معتبرة بحال القدرة والعجز ، فتجب مع القدرة في محلها في الحلق واللبة ما يسقط مع العجز ، كذلك العقر لا يشق اعتباره في الآلة ، فكان شرطا وشق اعتباره في الجارح فلم يكن عقره شرطا : ولأن ما كان شرطا في تعليم الجارح ، كان شرطا في الاستباحة ، كالإمساك ، وما لم يكن شرطا في التعليم لم يكن شرطا في الاستباحة ، كالأكل ، فلما لم يكن العقر شرطا في تعليمه لم يكن شرطا في استباحة صيده : ولأن عقره من دواعي الأكل المؤثر في الحظر ، فكان ترك عقره أصح في التعليم ، وأبعد من الحظر ، فكان أحق بالإباحة من العقر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية