[ ص: 132 ] كتاب الأطعمة
باب من معاني الرسالة ومعان ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب
أعرف له وغير ذلك
قال الشافعي رحمه الله : قال الله جل ثناؤه : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وقال في النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وإنما خوطب بذلك العرب الذين يسألون عن هذا ، ونزلت فيهم الأحكام ، وكانوا يتركون من خبيث المآكل ما لا يترك غيرهم .
قال الماوردي : اعلم أن المأكول ضربان : حيوان ونبات .
فأما النبات فيأتي .
وأما الحيوان فضربان : بري وبحري ، فأما البحري فقد مضى ، وأما البري فضربان : دواب وطائر ، وهذا الباب يشتمل على ما حل منها وحرم ، وهو على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما ورد النص بتحليله في كتاب أو سنة ، فهو حلال .
والضرب الثاني : ما ورد النص بتحريمه في كتاب أو سنة فهو حرام .
والضرب الثالث : ما كان غفلا لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم ، فقد جعل الله تعالى له أصلا يعرف به حلاله وحرامه ، في آياتين من كتابه وسنة عن رسوله .
فأما الآيتان فإحداهما قوله تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [ المائدة : 4 ] . فجعل الطيب حلالا .
والثانية قوله تعالى : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الأعراف : 157 ] . فجعل الطيب حلالا ، والخبث حراما ، فكانت هذه الآية أعم من الأولى ، لأن الأولى مقصورة على إحلال الطيبات ، وهذه تشتمل على إحلال الطيبات وتحريم الخبائث ، فجعل الطيب حلالا ، والخبث حراما ، وهذا خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، يدل على أن الناس سألوه عما يحل لهم ويحرم عليهم ، فأمره أن يخبرهم أنه قد أحل لهم الطيبات ، وحرم عليهم الخبائث ، ولا يخلو مراده بالطيب والخبيث من [ ص: 133 ] ثلاثة أمور : إما أن يريد به الحلال والحرام ، كما قال : أنفقوا من طيبات ما كسبتم يعني من الحلال ، ولا يجوز أن يكون هذا مرادا ، لأنهم سألوه عما يحل ويحرم ، فلا يصح أن يقول لهم : الحلال الحلال ، والحرام الحرام ، لأنه لا يكون فيه بيان للحلال ولا للحرام ، وإما أن يريد به الطاهر والنجس ، كما قال تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء : 43 ] . أي : طاهرا ، ولا يجوز أن يكون هذا مرادا ، لأن الطاهر والنجس معروف بشرع آخر ، فلا يكون في هذا بيان شرعي يعني عن غيره .
وإما أن يريد به ما كان مستطاب الأكل في التحليل ، ومستخبث الأكل في التحريم ، وهذا هو المراد إذا بطل ما سواه ، لأنهم يتوصلون بما استطابوه إلى العلم بتحليله ، وبما استخبثوه إلى العلم بتحريمه ، وإذا كان هذا أصلا وصار المستطاب حلالا والمستخبث حراما وجب أن يعتبر فيه العرف العام ، ولا يعتبر فيه عرف الواحد من الناس ، لأنه قد يستطيب ما يستخبثه غيره ، فيصير حلالا له وحراما على غيره ، والحلال والحرام ما عم الناس كلهم ، ولذلك اعتبر فيه العرف العام ، ولا يجوز أن يراد به عرف جميع الناس في جميع الأزمنة : لأنه خاطب به بعضهم دون بعض في بعض الأرض ، فاحتيج إلى معرفة من خوطب به من الناس ، ومعرفة ما أريد به من البلاد ، فكان أحق الناس بتوجه الخطاب إليهم العرب لأنهم السائلون المجابون ، وأحق الأرض من بلادهم ، لأنها أوطانهم ، وقد يختلفون فيما يستطيبون ويستخبثون بالضرورة والاختيار ، فيستطيب أهل الضرورة ما استخبثه أهل الاختيار ، فوجب أن يعتبر فيه عرف أهل الاختيار ، دون أهل الضرورة لأنه ليس مع الضرورة عرف معهود ، وهم يختلفون فيها من ثلاثة أوجه :
أحدها : بالغنى والفقر ، فيستطيب الفقير ما يستخبثه الغني .
والثاني : بالبدو والحضر ، فيستطيب البادية ما يستخبثه الحاضرة .
والثالث : بزمان الجدب وزمان الخصب ، فيستطاب في زمان الجدب ما يستخبث في زمان الخصب ، وإذا كان كذلك وجب أن يعتبر فيه أهل الاختيار من جمع الأوصاف الثلاثة ، وهم الأغنياء دون الفقراء ، أو سكان الأمصار والقرى دون البادية ، وفي زمان الخصب دون زمان الجدب ، من العرب دون العجم ، وبلادهم دون غيرها ، فتصير خمسة : الأوصاف المعينة فيمن يرجع إلى استطابته واستخباثه
أحدها : أن يكونوا عربا .
والثاني : أن يكونوا في بلادهم .
والثالث : أن يكونوا من أهل الأمصار والقرى ، دون الفلوات .
والرابع : أن يكونوا أغنياء من أهل السعة .
[ ص: 134 ] والخامس : أن يكونوا في زمان الخصب والسعة .
فإذا تكاملت في قوم استطابوا أكل شيء كان حلالا ما لم يرد فيه نص بتحريمه ، وإن استخبثوا أكل شيء كان حراما ما لم يرد نص بتحليله .