باب كسب الحجام
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : ولا بأس بكسب الحجام ، فإن قيل : فما معنى نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل عن كسبه وإرخاصه في أن يطعمه رقيقه وناضحه ؟ قيل : لا معنى له إلا واحد ، وهو أن للمكاسب حسنا ودنيئا ، فكان كسب الحجام دنيئا فأحب له تنزيه نفسه عن الدناءة لكثرة المكاسب التي هي أجمل منه ، فلما زاده فيه أمره أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه تنزيها له لا تحريما عليه ، وقد حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ، ولو كان حراما لم يعطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه [ ص: 153 ] لا يعطي إلا ما يحل إعطاؤه ، ولآخذه ملكه ، وقد روي أن رجلا ذا قرابة لعثمان قدم عليه ، فسأله عن معاشه ، فذكر له غلة حجام أو حجامين ، فقال : إن كسبكم لوسخ ، أو قال : لدنس ، أو لدنيء ، أو كلمة تشبهها .
قال الماوردي : اعلم أن الحاجة إلى المكاسب داعية لما فطر الله تعالى عليه الخلق من الحاجة إلى الطعام ، والشراب ، والكسوة لنفسه ، ومن يلزمه الإنفاق عليه من مناسب ومصاحب ، وأصول ، فينبغي للمكتسب بها أن يختار لنفسه أطيبها ، لقول الله تعالى : المكاسب المألوفة ثلاثة : زراعة ، وتجارة ، وصناعة ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم [ البقرة : 267 ] .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من لم يبال من أين مطعمه ولا من أين مشربه لم يبال الله من أي أبواب النار أدخله .
واختلف الناس في أطيبها ، فقال قوم : الزراعات ، وهو عندي أشبه : لأن الإنسان فيها متوكل على الله ، في عطائه ، مستسلم لقضائه .
وقال آخرون : التجارة أطيبها ، وهو أشبه بمذهب الشافعي : لتصريح الله تعالى بإحلاله في كتابه ، بقوله : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .
واقتداء بالصحابة رضي الله عنهم في اكتسابهم بها .
وقال آخرون : الصناعة ، لاكتساب الإنسان فيها بكد يديه .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة ، ولكن يكفره عرق الجبين في طلب الحرفة .
فأما الزراعة فلا مدخل لها في تحريم ولا كراهية ، وهذا أول شيء على أنها أطيب المكاسب ، وأما . التجارة ، فتنقسم ثلاثة أقسام : حلال ، وهو : البيوع الصحيحة . وحرام : وهو البيوع الفاسدة . ومكروه : وهو الغش والتدليس
وأما الصناعة فتنقسم ثلاثة أقسام .
حلال : وهو . ما أبيح من الأعمال التي لا دنس فيها كالكتابة والنجارة والبناء
وحرام : وهو . ما حظر من الأعمال كالتصاوير والملاهي
ومكروه : وهو ، والنص فيه وارد في الحجام ، وهو أصل نظائره ، والنص فيه ما رواه ما باشر فيه النجاسة كالحجام والجزار ، وكناس الحشوش والأقذار معمر عن [ ص: 154 ] الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أنه . سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أجر الحجام فنهاه عنه ، فشكا من حاجتهم ، فقال : اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك
فذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه حرام على الأحرار حلال للعبيد : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السادة دون العبيد ، واعتمدوا فيه على رواية رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فلما وصفه بالخبث ، وقرنه بالحرام كان حراما . كسب الحجام خبيث ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث
والدليل على فساد ما ذهبوا إليه ما رواه علي بن أبي طالب عليه السلام . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأمرني أن أعطي الحجام أجرة
وروى أنس بن مالك أبا طيبة حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر له بصاع من تمر ، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه . قال أن جابر : وكان خراجه ثلاثة آصع من تمر في كل يوم ، فخففوا عنه في كل يوم صاعا .
ووجه الدليل منه : أنه لو حرم كسبه على آخذه حرم دفعه على معطيه ، فلما استجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بدفعه إليه دل على جواز أخذه .
فإن قيل : إنما حجمه أبو طيبة متطوعا تقربا إلى الله بخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك شرب دمه ، فقال له : قد حرم الله جسمك على النار ، وكان ما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مواساة ، ولم يكن أجرة ، فعنه جوابان :
أحدهما : إن ما أعطاه مقابلة على عمله ، صار عوضا ينصرف عن حكم المواساة .
والثاني : أن أبا طيبة كان مملوكا لا يصح تطوعه بعمله ولا يستحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعه : ولأنه لم يزل الناس على هذا في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه إلى وقتنا هذا في سائر الأمصار يتكسبون بهذا ، فلا ينكره مستحسن في حق الله تعالى ، فدل على انعقاد الإجماع به ، وارتفاع الخلاف فيه .
ولأن الحاجة إليه داعية ، والضرورة إليه ماسة : لأنه لا يقدر الإنسان على حجامة نفسه إذا احتاج ، وما كان بهذه المنزلة لم يمنع منه الشرع : لما فيه من إدخال الضرر على الخلق ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : : ولأن كل كسب حل للعبيد حل للأحرار كسائر الأكساب . لا ضرر ولا ضرار
فأما كسب الحجام خبيث فهو أن اسم الخبث يتناول الحرام تارة والدنيء أخرى كما قال تعالى : الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون [ ص: 155 ] [ البقرة : 267 ] يعني الدنيء ، وكقوله من بعد : ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه [ البقرة : 267 ] ، فيحمل على الدنيء دون الحرام : بدليل ما قلناه ، وليس هو إلى الحرام بموجب لاشتراكهما في حكم التحريم : لأنه لما ضم إلى ما يحرم على الأحرار والعبيد ، وهذا لا يحرم على العبيد ، فجاز أن لا يحرم على الأحرار .