الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الاسم المفسر فضربان ، خاص وعام .

                                                                                                                                            فأما الخاص فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما كان له حقيقة ومجاز ، كالسراج حقيقة ما استصبح به من النار ومجازه الشمس ، والبساط حقيقة الفرش المبسوط ، ومجازه الأرض ، فينقسم في الأيمان خمسة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يريد به الحقيقة دون المجاز ، فيحمل على حقيقة ظاهره لفظا ومعتقدا ، سواء كان ما أراده من الحقيقة شرعيا أو لغويا ، فإذا حلف لا يأكل الزبد لم يحنث باللبن ، وإذا حلف لا يأكل التمر لم يحنث بالرطب ، وعلى هذا القياس .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يريد به المجاز دون الحقيقة ، فيريد بالسراج الشمس دون المصباح ، وبالبساط الأرض دون الفرش ، وباللحم السمك دون اللحم ، وبلمس الزوجة وطئها دون ملامستها ، فإن كانت يمينه بالله تعالى حملت على المجاز دون الحقيقة في الظاهر والباطن ؛ لاستثناء الحقيقة بنيته ، وإن كانت بطلاق أو عتاق حملت على المجاز في الباطن ، وحملت على أغلظ الأمرين في الظاهر ، وسواء ما كان ما أراده من المجاز شرعيا أو لغويا .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يريد به الجمع بين حقيقته ومجازه ، فيحمل عليها من بره وحنثه ، لأنه أغلظ من حمله على أحدهما ، فحمل السراج على المصباح والشمس ، ويحمل البساط على الفرش والأرض ، ويحمل اللحم على السمك واللحم ، ويحمل [ ص: 432 ] مس الزوجة على وطئها وملامستها ، وسواء كانت يمينه بالله أو بطلاق وعتاق .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يريد به غير حقيقته ومجازه ، كمن أراد بالسراج غير المصباح والشمس ، وأراد بالبساط غير الفرش والأرض ، فلا يحمل على ما أراد غير الحقيقة والمجاز ، لخروجه عن مقتضى لفظه من صريح وكناية ، كمن أراد الطلاق بما ليس بصريح ولا كناية ، ولا يحمل على المجاز ، لتجرده عن نية كالطلاق بالكناية إذا لم يقترن بنية .

                                                                                                                                            فأما حمله على الحقيقة ، فإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق ، حملت على الحقيقة في الظاهر لا من الباطن ، وكانت لغوا لا يتعلق بها بر ولا حنث .

                                                                                                                                            وقال مالك ومحمد بن الحسن : أحمل يمينه على إرادته ، وإن خرج عن الحقيقة والمجاز إذا اقترن لها ضرب من الاحتمال .

                                                                                                                                            وقال مالك فيمن قال لغيره : والله لا شربت لك ماء من عطش ، حنث بأكل طعامه ، ولبس ثوبه ، وركوب دابته ، ودخول داره .

                                                                                                                                            وقال محمد بن الحسن فيمن قال لغريمه : والله لأجرنك على الشوك : حنث بمطله وتأخير دينه اعتبارا بمخرج الكلام ومقصوده ، وهذا فاسد ، لأن ما خرج عن الحقيقة والمجاز صار مختصا بمجرد النية ، والنية لا تتعلق بها يمين ، كما لو نوى يمينا ، فليست بيمين .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : أن تتجرد يمينه عن نية وإرادة ، فيحمل في البر والحنث على الحقيقة دون المجاز ، لأن افتقار المجاز إلى النية يسقط حكمه إذا تجرد عن نية ، مثل كنايات الطلاق إذا لم تقترن بها نية .

                                                                                                                                            فإن اختلف الشرع واللغة في حقيقته ومجازه ، كالنكاح هو في الشرع حقيقة في العقد ، ومجاز في الوطء ، وهو في اللغة حقيقة في الوطء ، ومجاز في العقد ، كالصلاة هي الشرع حقيقة في الدعاء في ذاته الركوع والسجود ، ومجاز في الدعاء ، وهي في اللغة حقيقة في الدعاء مجاز في غيره ، وكذلك الزكاة والصيام والحج ، فيحمل على حقيقته في الشرع دون اللغة ، لأن الشرع ناقل ، فيحمل النكاح على العقد دون الوطء ، وتحمل الصلاة على ذات الركوع والسجود دون الدعاء .

                                                                                                                                            فقد ترتب على هذا الأصل ما قدمناه فيمن حلف لا يأكل الدقيق ، فأكل الخبز لم يحنث ، ولو حلف لا يشم البنفسج فشم دهن البنفسج لم يحنث ، ولو حلف لا يضرب عبده ، فعضه لم يحنث حملا له على الحقيقة دون المجاز ، وحنثه أبو حنيفة بالأمرين استعمالا للحقيقة والمجاز .

                                                                                                                                            [ ص: 433 ] والضرب الثاني في الاسم الخاص : أن تكون له حقيقة وليس له مجاز ، فهو على أربعة أقسام : مبهم ، ومعين ، ومطلق ، ومقيد .

                                                                                                                                            فالمبهم أن يقول : لا كلمت رجلا ، فيحنث بكل من كلمه من الرجال ، ولا يحنث بكلام صبي ولا امرأة .

                                                                                                                                            والمعين أن يقول : لا كلمت زيدا ، فيحنث بكلامه صغيرا كان أو كبيرا ، ولا يحنث بكلام غيره .

                                                                                                                                            والمطلق أن يقول : لا شربت ماء ، فإطلاقه أن لا يذكر له قدرا ، ولا يعين له زمانا أو مكانا ، فيحنث بشربه في كل مكان وزمان إذا شربه صرفا ، فإن مزجه بغيره حنث إذا غلب على غيره بلونه وطعمه ، ولم يحنث إذا غلب عليه غيره بلونه وطعمه ، كمن حلف لا يأكل خلا ، فأكل سكباجا ، أو لا يأكل سمنا ، فأكل عصيدا .

                                                                                                                                            والمقيد على ثلاثة أضرب : مقيدا بمكان كقوله : لا شربت بالبصرة ، فلا يحنث بشربه في غيرها .

                                                                                                                                            ومقيدا بزمان كقوله : لا شربته شهرا ، فلا يحنث بشربه بعده .

                                                                                                                                            ومقيدا بصفة كقوله : لا شربته صرفا ، فلا يحنث بشربه ممزوجا .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك حنث بالمبهم في المعين ، ولم يحنث في المعين بالمبهم ، وحنث في المطلق بالمقيد ، ولم يحنث في المقيد بالمطلق لعموم المبهم والمطلق وخصوص المعين والمقيد ، فإن أراد بالمبهم معينا ، وبالمطلق مقيدا حمل على إرادة لفظه ، فجعل المبهم معينا ، والمطلق مقيدا في الظاهر والباطن إن كان حالفا بالله ، وفي الباطن دون الظاهر إن كان حالفا بالطلاق والعتاق ، لأنه استثنى بعض ما شمله عموم الجنس ، فصار كتخصيص العموم في النصوص الشرعية ، فلا يحنث في إبهام قوله : لا كلمت رجلا ، وقد أراد زيدا إلا بكلامه دون غيره من الرجال ، ولا يحنث في إطلاق قوله : لا شربت ماء ، وقد أراد شهرا ألا يشربه فيه دون غيره من الشهور .

                                                                                                                                            فأما عكس هذا إذا أراد بالمعين مبهما ، وبالمقيد مطلقا حمل على لفظه في التعيين والتقييد ، ولم يحمل على إرادته في الإبهام والإطلاق ، لأن ما يجاوز المعين والمقيد خارج من لفظ اليمين فصار مرادا بغير يمين ، فلا يحنث في تعيين قوله : لا كلمت زيدا هذا ، وقد أراد كل الرجال إلا بكلام زيد وحده ، ولا يحنث في تقييد قوله : لا شربت الماء في شهري هذا ، وقد أراد كل الشهور على الأبد أن لا يشربه فيه وحده .

                                                                                                                                            وتعليله بما ذكرنا وشاهده من الطلاق أن يقول لامرأته : أنت طالق واحدة ، يريد بها ثلاثا ، فتطلق واحدة ولا تطلق ثلاثا ، لأنه قد صرح بنفيها من لفظه ، فلم تقم بمجرد [ ص: 434 ] إرادته فافترق حكم العكسين ، لافتراق العلتين ، فهذا أصل يحمل عليه الكلام في أحكام الأيمان في الأسماء والخاصة في الحقيقة والمجاز .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية