الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الاسم العام فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : عام اللفظ عام المراد .

                                                                                                                                            والثاني : عام اللفظ خاص المراد .

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول ، فهو ما كان عام اللفظ عام المراد ، فينقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان عمومه في لفظه ومعناه .

                                                                                                                                            والثاني : ما كان عمومه في لفظه دون معناه .

                                                                                                                                            والثالث : ما كان عمومه في معناه دون لفظه .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول ، وهو ما كان عمومه في لفظه ومعناه ، فمثل قوله : والله لا كلمت الناس ، فيحمل على عموم لفظه ومعناه في حنثه بكلام كل إنسان من صغير وكبير ذكر وأنثى بكل نوع من الكلام من سليم وسقيم .

                                                                                                                                            ومثله في التنزيل قوله تعالى : إن الله بكل شيء عليم [ العنكبوت : 62 ] وقياسه في الأيمان أن يقول : والله لا أكلت اللحم ، فيحمل على عموم لفظه ومعناه ، فيحنث بكل نوع من اللحم على كل صفة من الأكل ثم على هذا القياس .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو ما عمومه في لفظه دون معناه ، فمثل قوله : والله لا أكلت الحنطة ، فيحنث لكل نوع من الحنطة ، ولا يحنث بأكل ما حدث عن الحنطة من دقيق وسويق وخبز . وكذلك قوله : لا أكلت الرطب يحنث بكل نوع من الرطب ، ولا يحنث بما حدث من الرطب عن تمر وبسر .

                                                                                                                                            وقوله : لا أكلت اللبن يحنث بكل نوع من اللبن ، ولا يحنث بما حدث عن اللبن من جبن ومصل وزبد وسمن ، فيصير ذلك محمولا على عموم لفظه دون معناه ، وهذا مختص بما إذا تغير عن حاله ، وزال عن اسمه ، فاجعل ذلك قياسا مطردا في نظائره .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو ما كان عمومه في معناه دون لفظه ، فمثل قوله : والله لا أكلت عسلا ، فأكل خبيصا فيه عسل ، ولا أكلت دقيقا ، فأكل خبيصا فيه دقيق ، ولا أكلت سمنا ، فأكل خبيصا فيه سمن ، حنث في هذه كلها ، لأن في الخبيص عسلا ودقيقا وسمنا ، فيصير ذلك محمولا على عموم معناه دون لفظه ، وهذا مختص بما إذا حدث له اسم بالمشاركة لم يزل الاسم الخاص عن كل نوع منها ، لأنه لا يسمى [ ص: 435 ] خبيصا إلا باجتماعها ، ولا يزول اسم كل نوع عنه ، لأنه يقال هذا خبيص فيه عسل ، وفيه دقيق ، وفيه سمن .

                                                                                                                                            فإن قيل : أفليس لو قال : لا أكلت دقيقا وأكله خبزا لم يحنث ؟ فهلا كان في الخبيص كذلك قيل : لوقوع الفرق بينهما بأنهم يقولون : هذا خبيص فيه دقيق ، ولا يقولون : هذا خبز فيه دقيق فصار اسم الدقيق في الخبيص باقيا ، وفي الخبز زائلا ، فلذلك ما افترقا في حكم الحنث ، فاجعل ذلك قياسا مطردا في نظائره .

                                                                                                                                            فهذا حكم الضرب الأول فيما كان عام اللفظ عام المراد .

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني : وهو ما كان عام اللفظ خاص المراد ، فهو ما خص عموم لفظه بسبب أوجب خروجه عن عمومه ، كما خص عموم الكتاب بالسنة .

                                                                                                                                            وتخصيص اللفظ العام في الأيمان يكون من خمسة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : تخصيص عمومه بالمعقول .

                                                                                                                                            والثاني : بالشرع .

                                                                                                                                            والثالث : بالعرف .

                                                                                                                                            والرابع : بالاستثناء .

                                                                                                                                            والخامس : بالنية .

                                                                                                                                            فأما الوجه الأول : في تخصيص عمومه بالمعقول ، فهو ما امتنع استيفاء عمومه في العقل كقوله : والله لآكلن الخبز ، ولأشربن الماء ، ولأكلمن الناس ، ولأتصدق على المساكين ، لما امتنع في العقل أن يأكل كل الخبز ، ويشرب كل الماء ، ويكلم جميع الناس ، ويتصدق على جميع المساكين ، خص العقل عموم الجنس ، فتعلق البر والحنث بأكل بعض الخبز ، وشرب بعض الماء ، وكلام بعض الناس ، والتصدق على بعض المساكين .

                                                                                                                                            ثم هذه الأجناس ضربان : معدود وغير معدود .

                                                                                                                                            فأما غير المعدود فكالخبز والماء ، فيتعلق البر والحنث بقليل الجنس وكثيره ، فأي قدر أكله من الخبز ، وأي قدر شربه من الماء بر به في الإثبات ، وحنث به في النفي ، لأنه لما سقط بالمعقول حكم العموم ، ولم يتقدر بعضه بعرف ولا معقول ، روعي فيه ما انطلق عليه الاسم .

                                                                                                                                            وأما المعدود فكالناس والمساكين ، فإن كان يمينه على إثبات كقوله : لأكلمن الناس ولأتصدق على المساكين ، لم يبر حتى يكلم من الناس ثلاثة ، ويتصدق على ثلاثة من المساكين ، اعتبارا بأقل الجمع ، وإن كانت يمينه على نفي كقوله : لا كلمت [ ص: 436 ] الناس ، ولا تصدقت على المساكين ، حنث بكلام واحد من الناس ، وبالصدقة على واحد من المساكين ، اعتبارا بأقل العدد في النفي .

                                                                                                                                            والفرق بينهما في اعتبار أقل الجمع في الإثبات واعتبار أقل العدد في النفي أن نفي الجميع ممكن ، وإثبات الجميع ممتنع .

                                                                                                                                            وأما الوجه الثاني : في تخصيص العموم بالشرع فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : تخصيص اسم .

                                                                                                                                            والثاني : تخصيص حكم .

                                                                                                                                            فأما تخصيص الاسم فكالصيام ، في اللغة هو : الإمساك عن الطعام والكلام والشراب ، ثم خصه الشرع بالإمساك عن الطعام والشراب في النهار ، ويكون عمومه في اللغة محمولا على خصوصه في الشرع ، فإذا عقد يمينه على الصيام لم يتعلق البر والحنث إلا بالصوم الشرعي ، وصار عموم اللفظ بالشرع مخصوصا .

                                                                                                                                            وكذلك الحج في اللغة هو القصد إلى كل جهة ، وخصه الشرع بقصد البيع الحرام لأفعال الحج ، فلا يتعلق البر والحنث في انعقاد يمينه على الحج إلا بخصوص الشرع دون عموم اللغة .

                                                                                                                                            وعلى هذا قياس نظائره .

                                                                                                                                            وأما تخصيص الحكم ، فكلحم الخنزير ، خص بالتحريم من عموم اللحوم المباحة ، ففي تخصيص العموم به في الأيمان وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يختص عمومها بالحكم الشرعي ، كما خص بالاسم الشرعي ، فلا يحنث إذا حلف لا يأكل اللحم بأكل اللحوم المحرمة .

                                                                                                                                            ولو حلف ليأكلن اللحم لم يبر بأكل اللحوم المحرمة .

                                                                                                                                            لو حلف : لا وطئ لم يحنث بالوطء في الدبر .

                                                                                                                                            ولو حلف أنه يطأ لم يبر إلا بالوطء في القبل ، ويبر ويحنث بوطء الزنا ، لأنه من جنس المباح .

                                                                                                                                            ويتفرع عليه إذا حلف لا يتيمم ، كان محمولا على تيمم أعضائه بالتراب ، دون ما هو موضوع عليه في اللغة من القصد .

                                                                                                                                            فإن تيمم لمرض أو في سفر حنث ، وإن تيمم بالقصد إلى جهة لم يحنث ، ثم على هذا القياس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يتخصص عموم الأيمان بالأحكام الشرعية ، لاتفاق أحكام الأيمان في الحظر والإباحة ، اعتبارا بما انعقدت عليه ، فتحمل على عمومها فيما حل [ ص: 437 ] وحرم ، اعتبارا بالاسم دون الحكم ، فيحنث في اللحم بكل لحم ، وفي الوطء بكل وطء ، ثم على هذا القياس في نظائره .

                                                                                                                                            وأما الوجه الثالث : في تخصيص العموم بالعرف فضربان : عام وخاص .

                                                                                                                                            فأما العرف العام ، فكمن حلف لغيره : لأخدمنك الليل والنهار ، فيخص بالعرف من خدمة النهار زمان الأكل والشرب والطهارة والصلاة والاستراحة بحسب ما يخدم فيه من شاق وسهل ، ومن خدمة الليل وقت النوم والمألوف ، فإن ترك الخدمة فيها لم يحنث ، لخروجها بالعرف من عموم يمينه .

                                                                                                                                            وإن ترك الخدمة في غيرها من الأوقات حنث ، لدخولها في عموم يمينه ، ولو حلف لأضربنك الليل والنهار خرج بالعرف من زمان النهار ما ذكرناه من زمان الاستراحة في الخدمة ، فلا يكون بترك الضرب فيها حانثا ، وخرج بالعرف من بقية الزمان في الضرب خصوصا في الوقت الذي يكون ألم الضرب فيه باقيا ، فيكون بقاء ألمه كبقاء فعله ، فإن ترك ضربه مع بقاء الألم لم يحنث ، وإن تركه مع زوال الألم حنث ، لأن من دوام فعله أن تتخلله فترات في العرف ، فاعتبر بدوام ألمه الحادث عنه . ولو قال : والله لا وضعت ردائي عن عاتقي انعقدت يمينه على لزوم لبسه في زمان العرف ، فإن نزعه عن عاتقه في زمان الليل أو دخول الحمام أو عند تبذله لم يحنث لخروجه بالعرف عن زمان لبسه ، وإن نزعه في غيره حنث لدخوله في عرف لبسها .

                                                                                                                                            فلو قال لغريمه : والله لا نزعت ردائي عن عاتقي حتى أقضيك دينك ، حنث بنزعه قبل قضاء دينه في زمان العرف وغيره ، والفرق بينهما أن جعله في الإطلاق مقصودا في قضاء الدين شرط والعرف معتبر في الأيمان دون الشروط .

                                                                                                                                            ولو قال لغريمه : والله لأخدمنك حتى أقضيك دينك ، لم يحنث بترك الخدمة في زمان الاستراحة ، قبل القضاء ، لأنه جعل الخدمة خبرا ، ولم يجعلها شرطا ، ثم على قياس هذا في نظائره .

                                                                                                                                            وينساق على هذا الأصل إذا حلف لا يأكل الرؤوس أنه لا يحنث برؤوس غير الغنم ، لخروجها بالعرف من عموم الاسم ، وإذا حلف لا يأكل البيض لم يحنث ببيض السمك والجواد ، وكذلك في نظائره .

                                                                                                                                            ويطرد على هذا القياس إذا حلف لا يلبس هذا القميص ، حنث بلبسه إذا تقمص به ، ولم يحنث بلبسه إذا ارتدى به ، وإذا حلف : لا يلبس هذا الخاتم حنث بلبسه في [ ص: 438 ] الخنصر ، ولم يحنث بلبسه في الإبهام اعتبارا بالعادة ، وتخصيصا بالعرف .

                                                                                                                                            وأما العرف الخاص فكقوله : والله لا قتلت ، ولا ضربت ، فأمر بالقتل والضرب ، حنث به الملوك دون السوقة ، لأن العرف في أفعال الملوك الأمر بها ، وفي أفعال السوقة مباشرتها . ولو قال : والله لا نسجت ثوبا ، فاستنسجه حنث به من لا يحسن النساجة ، ولم يحنث به من يحسنها ، ولو قال : والله لا تصدقت حنث الأغنياء بدفعها ، وحنث الفقراء بأخذها اعتبارا بالعرف من الفريقين .

                                                                                                                                            ولو قال : والله لا طفت ولا سعيت حنث أهل مكة بالطواف بالبيت ، وبالسعي بين الصفا والمروة ، وحنث غيرهم بالسعي على القدم ، والطواف في الأسواق ، وحنث أهل الوشاة بالسعي إلى الولاة .

                                                                                                                                            ولو قال : والله لا ختمت ، حنث القارئ بختم القرآن ، وحنث التاجر بختم كيسه ، لأنه عرف كل واحد منهما .

                                                                                                                                            ولو قال : والله لا قرأت ، حنث بقراءة القرآن ، ولم يحنث بقراءة الشعر . ولو قال والله لا تكلمت حنث بجميع الكلام ، بإنشاد الشعر ، ولم يحنث بقراءة القرآن على مذهب الشافعي ، لخروجه بالإعجاز عن جنس الكلام الذي ليس فيه بإعجاز وقال أبو حنيفة : يحنث بالقرآن من غير الصلاة ، ولا يحنث به في الصلاة ، وليس لاختلاف الحالين تأثير فيه إن كان من جنس الكلام أو لم يكن ، فلم يكن للفرق بين الحالين وجه . فهذا حكم المخصوص بالعرف ، فقس عليه نظائره .

                                                                                                                                            وأما الوجه الرابع : في تخصيص العموم بالاستثناء ، فهو القول المخرج من لفظ اليمين بعض ما اشتملت عليه ، وله شرطان : أحدهما : أن يكون متصلا بها ، فإن انفصل عنها بطل .

                                                                                                                                            والثاني : أن يخالف حكم اليمين ، فإن كانت على نفي كان الاستثناء إثباتا ، وإن كانت على إثبات كان الاستثناء نفيا واختلف أصحابنا في هذا الاستثناء هل يفتقر إلى اعتقاده في أول اليمين على وجهين : أحدهما : أن اعتقاده مع أول اليمين شرط في صحته ، وإن لم يعتقده بطل حكمه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن كان حكمه في الظاهر صحيحا .

                                                                                                                                            [ ص: 439 ] والوجه الثاني : أنه إذا اتصل باليمين المقصودة جرى عليه حكمها ، وصح بمجرد لفظه في الظاهر والباطن .

                                                                                                                                            وحكم هذا الاستثناء أن يخرج من يمينه بعض جملتها ، فلا تنعقد عليه اليمين ولا يتعلق به فيها بر ولا حنث ، وهو على أربعة أضرب :

                                                                                                                                            استثناء مكان ، واستثناء زمان ، واستثناء عدد ، واستثناء صفة ، وفي ذكر أحدها بيان لجميعها .

                                                                                                                                            فإذا قال : والله لأضربن زيدا إلا في داري بر إن ضربه في غير داره ، ولم يبر إن ضربه في داره ، وحنث إن لم يضربه في غير داره ، ولا يحنث إن لم يضربه في داره . ولو قال : والله لا ضربت زيدا إلا في داري ، حنث إن ضربه في غير داره ، ولم يحنث إن ضربه في داره ، وبر إن لم يضربه في غير داره ، ولا يبر إن لم يضربه في داره ، ثم على هذا القياس في نظائره .

                                                                                                                                            وأما الوجه الخامس : في تخصيص العموم بالنية ، فهو أن ينوي بقلبه في عقد يمينه ما يصح أن يذكره بلفظه ، فيحمل فيها على نيته إذا اقترنت بعقد يمينه ، ولا تصح إن تقدمت النية على اليمين أو تأخرت عنها ، وذلك مثل قوله : والله لا كلمت زيدا ، وينوي به شهرا ، ولا أكلت خبزا ، وينوي به ليلا ، ولا لبست ثوبا ، وينوي به قميصا ، وقد ذكرنا من نظائره ما أغنى ، فيكون في الأيمان بالله تعالى محمولا على نيته في الظاهر والباطن ، وفي الأيمان بالطلاق والعتاق محمولا عليها في الباطن والظاهر ، فهذا أصل في الأيمان لا يخرج أحكامها منه ، فإذا حملت عليه سلمت من الخطأ والزلل ، والله يوفق من استرشده .

                                                                                                                                            وسأتبعه من الفروع بما توضحه من متفق عليه ومختلف فيه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية