مسألة : قال الشافعي : " ولو كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا فالورع أن يحنث ، ولا يبين ذلك لأن الرسول والكتاب غير الكلام ( قال المزني ) - رحمه الله - : هذا عندي به وبالحق أولى قال الله جل ثناؤه : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا إلى قوله : بكرة وعشيا فأفهمهم ما يقوم مقام الكلام ولم يتكلم ، وقد احتج الشافعي بأن الهجرة محرمة فوق ثلاث ، فلو كتب أو أرسل إليه ، وهو يقدر على كلامه لم يخرجه هذا من الهجرة التي يأثم بها ( قال المزني ) - رحمه الله - : فلو كان الكتاب كلاما لخرج به من الهجرة فتفهم " .
قال الماوردي : إذا لم يحنث . حلف لا يكلم فلانا ، فيكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا أو أشار إليه بيده أو رمز إليه بعين أو حاجب
وبه قال أبو حنيفة .
وقال مالك : يحنث وذكره الشافعي في القديم ، فاختلف أصحابه فيه ، فجعله بعضهم قولا له ثانيا ، وتبعهم فيه أبو حامد الإسفراييني ، فخرج حنثه بذلك على قوليه وجعلوا كلام المزني دليلا عليهما واختيارا للصحيح منهما .
وذهب جمهورهم إلى أنه ذكره حكاية عن غيره ، وليس بمذهب له ، فلا يحنث به قولا ، وجعلوا كلام المزني احتجاجا للشافعي ، وردا على مالك .
واستدل مالك ومن تابعه على حنثه بالكتاب والرسول بقول الله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا [ الشورى : 51 ] . فجعل الوحي كلاما ، لاستثنائه منه ، وقال تعالى : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ آل عمران : 41 ] . فجعل الرمز كلاما لاستثنائه منه ، ولأنه يقوم في الأفهام مقام الإفهام ، فصار في حكم الكلام .
ودليلنا : ما استدل به المزني من قول الله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 10 ، 11 ] . فدل على خروج الوحي والإشارة من الكلام الذي نهى عنه .
وقال تعالى في قصة مريم : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا إلى قوله : فأشارت إليه ، [ مريم : 26 ، 27 ، 28 ، 29 ] . فدل على خروج الإشارة [ ص: 447 ] من الكلام الذي نهيت عنه ، ولأن كلامه مختص بجارحة لسانه ، وكلام الرسول بلسان غيره ، والكتاب من أفعال يده ، فصار كلامه مخالفا لرسالته ، وكتابه مخرجا عن حكم كلامه ، ولأن الأيمان محمولة على الأسامي دون المعاني والأسماء في ذلك مختلفة ، فوجب أن تكون في أحكام الأيمان مختلفة ، وإن استدل المزني بما حكاه عن الشافعي بأن الهجرة محرمة فوق ثلاث ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : . لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، والسابق أسبقهما إلى الجنة
قال : فلو كتب أو أرسل إليه ، وهو يقدر على كلامه لم يخرجه هذا من الهجرة التي أثم بها .
واختلف أصحابنا فيه على وجهين :
أحدهما : - وهو قول أبي إسحاق المروزي - أنه على ظاهره ، أنه لا يخرج برسوله وكتابه عن مأثم الهجرة ، فيكون دليلا في المسألة .
والوجه الثاني : - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة - أنه يخرج من مأثم الهجرة كالكلام ، وإن لم يكن كلاما ، لأن مقصود الكلام في الهجرة نفي ما بينهما من الوحشة ، وعودهما إلى ما كانا عليه من الأنسة ، فقام ذلك مقام الكلام في الهجرة اعتبارا بالمعنى ولم يقم مقام الكلام في اليمين اعتبارا بالاسم ، لما ذكرنا من حمل الأيمان على الأسامي ، وحمل الأحكام على المعاني .
فأما الجواب عن الآيتين ، فهو من الاستثناء المنقطع بمعنى لكن ، فجاز أن يعود إلى غير جنسه ، كقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] معناه : لكن كلوه بتجارة .
فأما الاستدلال فقد تقدم الانفصال عنه بأن الأيمان محمولة على الأسامي دون المعاني .