الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
4281 - "الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها؛ إلا ذكر الله؛ وما والاه؛ وعالما؛ أو متعلما" ؛ (هـ)؛ عن أبي هريرة ؛ (طس)؛ عن ابن مسعود ؛ (ح) .

التالي السابق


( الدنيا ملعونة ) ؛ لأنها غرت النفوس بزهرتها؛ ولذاتها؛ وإمالتها عن العبودية؛ إلى الهوى؛ حتى سلكت غير طريق الهدى؛ (ملعون ما فيها؛ إلا ذكر الله؛ وما والاه) ؛ أي: ما يحبه الله في الدنيا؛ و"الموالاة": المحبة بين اثنين؛ وقد تكون من واحد؛ وهو المراد هنا: يعني: ملعون ما في الدنيا؛ إلا ذكر الله؛ وما أحبه الله؛ مما يجري في الدنيا ؛ وما سواه ملعون؛ وقال الأشرفي : المراد بما يوالي ذكر الله: طاعته واتباع أمره؛ وتجنب نهيه؛ لأن ذكر الله يقتضي ذلك؛ (وعالما أو متعلما) ؛ أي: هي وما فيها مبعد عن الله (تعالى)؛ إلا العلم النافع الدال على الله؛ فهذا هو المقصود؛ ومنها قوله: "عالما أو متعلما"؛ بالنصب؛ عطفا على "ذكر الله"؛ لأنه مستثنى من موجب؛ وروي بالرفع أيضا؛ قال الطيبي : والنصب ظاهر؛ والرفع على التأويل؛ كأنه قيل: الدنيا مذمومة؛ لا يحمد مما فيها إلا ذكر الله؛ وعالم ومتعلم؛ وكان حق الظاهر أن يكتفي بقوله: "وما والاه"؛ لاحتوائه على جميع الخيرات؛ والفاضلات؛ ومستحسنات الشرع؛ لكنه خصص بعد التعميم؛ دلالة على فضل العالم والمتعلم؛ وتفخيما لشأنهما صريحا ؛ وإيذانا بأن جميع الناس سواهما همج؛ وتنبيها على أن المعني بالعالم والمتعلم: العلماء بالله؛ الجامعون بين العلم؛ والعمل؛ فيخرج الجهلاء؛ وعالم لم يعمل بعلمه؛ ومن يعمل عمل الفضول؛ وما لا يتعلق بالدين؛ وفيه أن ذكر الله أفضل الأعمال ؛ ورأس كل عبادة؛ والحديث من كنوز الحكم؛ وجوامع الكلم؛ لدلالته بالمنطوق على جميع الخلال الحميدة؛ وبالمفهوم على رذائلها القبيحة.

(تنبيه) :

قال ابن عطاء الله : تحقيرك للدنيا وأنت مقبل عليها؛ زور وبهتان؛ وتعظيمك لله؛ مع وجود إعراضك عنه؛ من أمارات الخذلان؛ كيف ترجو أن يكون لك قدر عنده وقد استعبدك ما ليس له قدر عنده؟! لو اشتغلت بالباقيات عنه ما كان ذلك عذرا لك عنده؛ هذا إن اشتغلت بباق يبقى؛ فكيف إذا اشتغلت بفان يفنى؟

(تنبيه) :

قال الحكيم : الدنيا هي هذه الدار التي دورت أرضها تدويرا بجبل قاف؛ وأحيط عليها بالجبل؛ وتلك دار أخرى؛ وهي الآخرة؛ وهذه أولى؛ وسميت "دنيا"؛ لأنها أدنيت إليك؛ والآخرة تعقبها؛ فسميت "عاقبة"؛ والعاقبة للمتقين؛ وفي هذه الدار زينة؛ وحياة؛ فزينة هذه أصلها من تلك؛ لكن نبتت ونشأت من أرض هي ذهبها وفضتها؛ وجواهرها؛ وأصل الشهوة من الفرج؛ وأصل اللذة من الذهن؛ وأصل القالب من التراب؛ والحياة مسكنها في الروح؛ والروح مسكنه في الدماغ؛ وهو منبث في جميع الجسد؛ وأصله معلق في عرق القلب؛ وهو نياطه؛ والنفس مسكنها في البطن؛ وهي منبثة في جميع البدن؛ وأصلها مشدود بذلك العرق؛ والشهوات في النفس؛ واللذة منها؛ وعملها في الذهن؛ ففيه الزينة؛ والحياة التي في النفس تستعمل هذا القالب؛ فما كان إلى العين خرج إلى العين؛ وما كان من السمع خرج للسمع؛ وما من النطق خرج للسان؛ وما كان من عمل اليد أو الرجل؛ خرج إليهما؛ وما من عمل الفرج خرج إليه؛ وما من عمل البطن خرج إليه؛ فمخرج أعمال الجوارح السبع من الفرح الذي في القلب؛ ومن الزينة والحياة التي في النفس؛ وإذا حزن القلب ذلت النفس؛ وانطلقت نار الشهوة؛ وتعطلت الجوارح عن العمل؛ وإذا فرح هاجت النفس؛ وصارت قوية طرية؛ وأثارت نار الشهوة؛ واستعملت الجوارح؛ فكل نار تستعمل الجارحة التي بحيالها؛ فالفرح رأس أعمال الجوارح؛ والعبد مغلوبه؛ فإذا حيي القلب بفرح شيء من زينة تزيا بذلك النور الذي في قلبه؛ فيصير ذلك الفرح لله؛ ونطق بالحمد لله؛ وأضمر على الطاعة والشكر؛ ثم ينتشر سلطان ذلك الفرح من صدره في جميع جوارحه؛ فيذهب كسله؛ ويقوى عزمه؛ وتطيب نفسه؛ ويصير حامدا شاكرا؛ وإن هاج الفرح بتلك الزينة من قلبه؛ وكان قلبه محجوبا [ ص: 550 ] عن الله؛ وصدره مظلما بغيوم الهوى؛ ودخان الشهوة؛ ورين الذنوب؛ لم يبصر بعين فؤاده صنع الله في تلك الزينة؛ فيصير الفرح للنفس؛ والفرح بالدنيا؛ فيظهر الفساد من الجوارح؛ وتخرج السيئات من الجسد؛ كل سيئة من معدنها؛ من قلة الرحمة والمبالاة؛ وظهرت الفظاظة؛ واليبس؛ والغلظة؛ والقسوة؛ ومداني الأخلاق؛ حتى صارت الجوارح إلى الغش والمكر والخديعة وسوء النيات والمقاصد؛ حتى خرج إلى الفرعنة؛ والتجبر؛ وكل على قدره يتنعمون بنعم الله؛ ويتلذذون بتلك اللذات؛ فرحا وأشرا وبطرا؛ فبان أن الأمر كله أصله من الفرح؛ فمن أمكنه صرفه إلى الله في كل عمل؛ تنور قلبه؛ وإلا وقع في الوبال؛ فإن صرف ذلك لله؛ لم يزد لربه إلا خشوعا؛ وخضوعا؛ وحياء؛ فحمده ودعاه ذلك إلى شكره بجميع جوارحه؛ وإقامة فرائضه؛ ومن لم يمكنه ذلك سباه فرحه؛ فصار سبيا من سبايا النفس؛ وإذا نالت النفس الفرح؛ كان كرجل متغلب؛ وجد كنزا؛ ففرقه في الغوغاء؛ حتى صاروا أعوانه؛ فخرج بتلك القوة على حاكم البلد؛ فسجنه؛ فإن تداركه الإمام الأعظم بمدد؛ فقد نصره؛ وإلا ذهبت الإمرة؛ فهذا شأن القلب مع النفس: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ؛ ففرح الدنيا هلاك الدين والقلب؛ وفرح الفضل والرحمة يوصل إلى الله ؛ فإذا رأى من عبد إقباله على هذه الدنيا الدنية؛ والشهوات الردية؛ أعرض عنه؛ فاستولى عليه الشيطان؛ فجعل همه دنياه؛ ونهمته شهوات نفسه؛ وطلب العلو فيها؛ حتى يضاد أقضية ربه؛ وتدبيره؛ وقطع بها عمره؛ فخسر الدنيا؛ والآخرة؛ وإذا رأى إقباله على ربه؛ هيأ له تدبيرا ينال به سعادة الدارين؛ فجميع ما في الدنيا متاع؛ وإنما صارت مذمومة ملعونة؛ لأنها غرت النفوس بنعيمها؛ وزهرتها؛ ولذتها؛ كلما ذاقت النفس طعم النعيم اشتهت ومالت عن العبودية إلى هواها؛ وقد جعل الله هذه الأشياء مسخرة يأخذ منها للحاجة؛ لا لقضاء الشهوة؛ واللعن إنما وقع على ما غرك من الدنيا؛ لا على نعيمها؛ ولذتها؛ فإن الأنبياء قد نالته؛ فذلك الذي استثناه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إلا ذكر الله..." ؛ إلخ.

(هـ؛ عن أبي هريرة ؛ طس؛ عن ابن مسعود ) ؛ قال الطبراني : لم يروه عن ثوبان ؛ عن عبدة ؛ إلا أبو المطرف المغيرة بن مطرف ؛ قال الهيثمي : ولم أر من ذكره.




الخدمات العلمية