الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : واستدل من أخذ بقول أبي حنيفة على تحريمه بعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم كيفية تملك الصيدولحم الخنزير [ المائدة : 3 ] .

                                                                                                                                            وبرواية ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحلت لنا ميتتان ودمان الحوت والجراد واسم الحوت خاص في السمك ، فكانت الإباحة مقصورة عليه : ولأن ما اختص بغير اسم الحوت لم ينطلق عليه إباحة الأكل كالبري : لأن الحيوان لا يختلف حكم إباحته باختلاف مواطنه كالخنزير الجبلي والسهلي .

                                                                                                                                            والدليل على إباحة جميعه قول الله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة [ المائدة : 96 ] يعني بصيد البحر صيد الماء من بحر أو نهر أو عين أو بئر : لأن أصل جميع المياه من البحر ، وفي طعامه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : طافية ، وهو قول أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                            والثاني : مملوحة ، وهو قول ابن عباس وفي قوله " متاعا " تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : طعام .

                                                                                                                                            والثاني : منفعة ، وفي قوله : " وللسيارة " ثلاثة تأويلات :

                                                                                                                                            أحدها : الحلال والمحرم .

                                                                                                                                            والثاني : المقيم والمسافر .

                                                                                                                                            والثالث : لأهل الأمصار وأهل القرى .

                                                                                                                                            والدليل في هذه الآية من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر يعني صيد البحر ، فكان على عمومه في جميع حيوانه .

                                                                                                                                            [ ص: 62 ] والثاني : قوله : وطعامه متاعا لكم وللسيارة يعني مطعومه ، فدل على أن جميعه مطعوم .

                                                                                                                                            وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته فعم جميع ميتاته ، ولم يخصها .

                                                                                                                                            وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال : كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم ، وهو محكي عن غيره من الصحابة ، وليس فيه مخالف له ، فكان إجماعا : ولأن ما لم يعش من الحيوان إلا في الماء حل أكله ميتا كالحوت .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلاله بقوله تعالى : أو لحم خنزير [ الأنعام : 145 ] فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مطلق اسم الخنزير لا ينطلق لغة وعرفا إلا على خنزير البر ، فإن أريد به غيره ، قيل : خنزير الماء ؛ مقيدا به ، فوجب أن يحمل حكمه على إطلاقه .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن اسمه لو انطلق عليها لخص تحريمها بقوله : لكل ميتة .

                                                                                                                                            وأما الصواب عن قوله : " الميتتان الحوت والجراد " ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن اسم الحوت ينطلق على جميعها ، فكان دليلا على إباحتها دون حظرها .

                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : " الحل ميتته " أعم منه فصار الحوت داخلا في عمومه ، ولم يخصه : لأنه لا ينافيه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على البري ، فهو أن الشرع قد فرق بين حيوان البر والبحر ، فلم يجز أن يجمع بينهما بالقياس .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بأن إباحة الحيوان لا يختلف باختلاف مواطنه ، فهو مدفوع بالإجماع ، ولاختلاف الأماكن مع الإجماع في الاسم والصورة تأثير في الحظر والإباحة : لأن الحمار الوحشي والحمار الأهلي يجتمعان في الاسم ، ويشتبهان في الصورة ، ويفترقان في الإباحة ، فيحل الوحشي ، ويحرم الأهلي : لاختلافهما في المكان ، وإن كان البر يجمعهما ، فكان ما افترقا في البر والبحر أولى أن يفترقا في الإباحة والحظر ، وإن اشتركا في الاسم واشتبها في الصورة ، وبهذا يبطل قول من ذهب من أصحابنا إلى اعتبار حيوان البحر بحيوان البر فأحل منه ما أشبه محللات البر وحرم منه ما أشبه محرمات البر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية