الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " ولو حلف لا يرى كذا إلا رفعه إلى قاض فرآه ، فلم يمكنه رفعه إليه حتى مات ذلك القاضي لم يحنث حتى يمكنه فيفرط ، وإن عزل فإن [ ص: 448 ] كانت نيته أن يرفعه إليه إن كان قاضيا ، فلا يجب رفعه إليه وإن لم يكن له نية خشيت أن يحنث إن لم يرفعه إليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح . إذا حلف أن لا يرفع إلى القاضي ما رآه من لقطة أو وصية أو منكر ، فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يعين القاضي ، ويصفه بالقضاء .

                                                                                                                                            والثاني : أن يعينه ، ولا يصفه بالقضاء .

                                                                                                                                            والثالث : أن يصفه بالقضاء ، ولا يعينه .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : إذا وصفه وعينه بالقضاء ، فهو أن يقول : أرفعه إلى فلان القاضي أو إلى هذا القاضي ، فللحالف فيما رآه ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يرفعه إليه في ولايته ، فقد بر في يمينه ، لوفائه بها .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن لا يرفعه إليه حتى يموت القاضي أو الحالف ، فينظر ، فإن كان قدر على رفعه إليه قبل الموت حنث في يمينه لتقصيره بها ، وإن لم يقدر على رفعه إليه نظر ، فإن لم يقدر عليه لقصور الزمان لم يحنث ، لأن زمان الإمكان شرط في البر ، وإن لم يقدر لعذر مانع من إكراه أو مرض ، ففي حنثه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يحنث على قول من لا يراعي الغلبة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا يحنث على قول من يراعي الغلبة .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن يعزل القاضي عن ولايته ، فلا يخلو الحالف في تعيين القاضي بالاسم والقضاء من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يريد رفعه إليه في أيام ولايته فيجعل الولاية شرطا في الرفع ، فيجري عزله عنها مجرى موته في الحكم فيه ، كما لو لم يرفعه إليه حتى مات .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن يريد رفعه إليه ولا يجعل الولاية شرطا فيرفعه إليه بعد عزله ، ويكون كحاله لو كان على ولايته ، ولا يلزمه رفعه إلى الوالي بعده ، ولا يبر إن رفعه إليه .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن لا تكون له نية في ولاية ، ولا عزل ، فهل يعتبر فيه حكم التعيين أو حكم الصفة ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            الأول : فمن حلف لا يكلم صبيا ، فكلمه رجلا ، أحدهما يغلب فيه حكم التعيين لقوته ، فعلى هذا يلزمه رفعه إليه بعد عزله ، ويكون كما لو كان على ولايته ، ويحنث بكلام الصبي إذا صار رجلا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يغلب فيه حكم الصفة ، لأنها كالشروط فلا يبر إن رفعه إليه بعد [ ص: 449 ] عزله ، ولا يحنث بكلام الصبي إذا صار رجلا .

                                                                                                                                            فإن لم يعد القاضي إلى ولايته كان كموته في بر الحالف وحنثه على ما قدمناه ، لاحتمال هذين الوجهين .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : " إن لم تكن له نية خشيت أن يحنث إن لم يرفعه إليه لما فيه من احتمال البر والحنث ، ولو حنث نفسه ورعا كان أحوط " .

                                                                                                                                            فهذا حكم القسم الأول .

                                                                                                                                            وأما حكم القسم الثاني ، فهو أن لا يعينه ، ولا يصفه بالقضاء ، وهو أن يقول : أرفعه إلى فلان أو إلى هذا ، فهذا يلزمه رفعه إليه في ولايته وعزله ، فيبر إذا رفعه إليه في الحالين ، ويحنث إذا لم يرفعه إليه في الحالين ، ولا يلزمه رفعه إلى غيره من القضاة ، ولا يبر إن رفعه .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث أن يصفه بالقضاء ، ولا يعينه ، فهو أن يقول : أرفعه إلى القاضي أو إلى قاض ، فلا يبر إن رفعه إلى معزول ، ولا يسقط بعزل قاضي الوقت وموته ، وقام غيره من القضاة مقامه لعقد اليمين على والي القضاء ، ثم ينظر .

                                                                                                                                            فإن قال : أرفعه إلى القاضي ، بالألف واللام لزمه رفعه إلى من تقلد قضاء ذلك البلد دون غيره ، فإن رفعه إلى غيره من قضاة الأمصار لم يبر ، وإن قال : إلى قاض ، بحذف الألف واللام ، وجاز أن يرفعه إلى من شاء من قضاة الأمصار ، وكان يرفعه إليه بارا ، لأن دخول الألف واللام تعريف وحذفها إبهام ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية