الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وإن حلف لا يفارق البلد إلا بإذن الوالي أو لا رأى منكرا إلا رفعه إليه ، أو لا تخرج امرأته وعبده إلا بإذنه ، فعزل ، وطلق وأعتق ، أو حلف لا دخله لظلم رآه فيه فزال ، ونوى " ما دام " ، لم يحنث ، ومع السبب فيه روايتان ، ونصه : يحنث ( م 3 ) وإن انحلت بعزله على أحد الوجهين [ ص: 361 ] لم يبر برفعه المنكر بعد عزله ، وفي حنثه بعزله أوجه ، الثالث يحنث إن [ ص: 362 ] أمكنه في ولايته ( م 4 - 6 ) وإن لم تنحل بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر ، [ ص: 363 ] وإن لم يعين الوالي إذن ففي تعيينه وجهان في الترغيب ، للتردد بين تعيين العهد والجنس ، وفيه : لو علم به بعد علمه فقيل : فات البر ، كما لو رآه معه ، وقيل : لا ، لإمكان صورة الرفع ، فعلى الأول : هو كإبرائه من دين بعد حلفه ليقضينه ، وفيه وجهان ( م 7 - 9 ) وكذا قوله جوابا لقولها تزوجت [ ص: 364 ] علي : كل امرأة لي طالق ، تطلق ، على نصه ، وقطع به جماعة ، أخذا بالأعم من لفظ وسبب : وقوله لمن عليه دينه : إن خرجت فعبدي حر ، ونحوه ، ويتوجه مثله من قيل له خرجت امرأتك فطلقها ، أو قال له عبده قدم أبوك أو مات عدوك فأعتقه ، ولم يوقعه ابن عقيل لبطلان الخبر ، لدلالة الحال ، لأنه مقدر بشرط أو تعليل . وفي الانتصار في قوله لأكبر منه : هو حر لأنه ابني ، عتق ولم يقبل تعليله بكذب ، كقوله أنت طالق لأنك قمت ، وقع ، إن كانت ما قامت .

                                                                                                          [ ص: 360 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 360 ] مسألة 3 ) قوله : " وإن حلف لا يفارق البلد إلا بإذن الوالي أو لا رأى منكرا إلا رفعه إليه ، أو لا تخرج امرأته وعبده إلا بإذنه فعزل ، وطلق ، وأعتق ، أو حلف لا دخله لظلم رآه فيه فزال ، ونوى " ما دام " لم يحنث ، ومع السبب فيه روايتان ، ونصه : يحنث " ، انتهى .

                                                                                                          هذه المسائل الخمس تنزع إلى قاعدة هي أصل هذه المسائل كلها وغيرها ، وهي أن اللفظ العام هل يخص بسببه الخاص إذا كان السبب هو المقتضي له ، أو يقضى بعموم اللفظية ؟ وجهان للأصحاب ، قاله في القاعدة الرابعة والعشرين بعد المائة ، وتابعه في القواعد الأصولية .

                                                                                                          ( أحدهما ) العبرة بعموم اللفظ ، قال في الرعايتين والحاوي الصغير أول الباب : فإن كان اللفظ أعم من السبب أخذ بعموم اللفظ ، وقيل : بل بخصوص السبب ، انتهى .

                                                                                                          وقال الناظم فإن كان معناه أعم فخذ به وخل خصوص اللفظ عنده تسدده ، واختاره القاضي في الخلاف ، والآمدي وأبو الفتح الحلواني ، وأبو الخطاب ، وغيرهم ، قال [ ص: 361 ] في القواعد الفقهية : وأخذوه من نص أحمد في رواية علي بن سعيد فيمن حلف لا يصطاد من نهر لظلم رآه فيه فزال الظلم ، قال أحمد : النذر يوفي به ، وكذلك أخذوه من قاعدة المذهب فيمن حلف لا يكلم هذا الصبي فصار شيخا أنه يحنث بتكليمه ، تغليبا للتعيين على الوصف ، قالوا : والسبب والقرينة عندنا تعين الخاص ولا تخصص العام ، انتهى .

                                                                                                          قال المصنف هنا : ونصه : يحنث ، وذلك لأن الاعتبار بعموم اللفظ .

                                                                                                          ( والوجه الثاني ) العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، وهو الصحيح عند صاحب المغني والبلغة والمحرر ، لكن المجد استثنى صورة النهر وما أشبهها ، كمن حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه ثم زال الظلم ، فجعل العبرة في ذلك بعموم اللفظ ، وعدى الشيخ الموفق الخلاف إليها أيضا . ورجحه ابن عقيل في عمد الأدلة وقال : هو قياس المذهب ، وجزم به القاضي في موضع من المجرد ، واختاره الشيخ تقي الدين ، وفرق بينه وبين مسألة النهر المنصوصة ، وذكره ، قال في القواعد : وهذا أحسن ، وقد يكون جده لحظ هذا ، انتهى .

                                                                                                          فتلخص في ذلك ثلاثة أقوال ، وقال الزركشي أيضا لما تكلم على لفظ الخرقي : إذا لم ينو شيئا لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ، فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار ، وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار ، لضرر لحقه من جيرانها أو منه حصل عليه بها ، ونحو ذلك اختصت يمينه بها ، كما هو مقتضى اللفظ ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاها ولا أثر للدار فيه تعدى ذلك إلى كل دار ، المحلوف عليها بالنص ، وما عداها بعلة الجفا التي اقتضاها السبب ، وكذا إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه ، أو لا يكلم زيدا لشربه الخمر ، فزال الظلم ، وترك زيد شرب الخمر ، جاز له الدخول والكلام ، لزوال العلة المقتضية لليمين .

                                                                                                          وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصا والسبب يقتضي التعميم كما مثلنا أولا ، أو كان اللفظ عاما والسبب يقتضي التخصيص كما مثلنا ثانيا ، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم ، واختلف في عكسه ، فقيل : فيه وجهان ، وقيل : روايتان ، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة :

                                                                                                          ( أحدها ) وهو المعروف عند القاضي في التعليق وفي غيره ، واختيار عامة أصحابه الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما : يؤخذ بعموم اللفظ ، وهو يقتضي نص أحمد ، وذكره [ ص: 362 ]

                                                                                                          ( والقول الثاني ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، وحكي عن القاضي في موضع : يحمل اللفظ العام على السبب ، ويكون ذلك السبب مبنيا على أن العام أريد به خاص .

                                                                                                          ( والقول الثالث ) لا يقتضي التخصيص : فيما إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه ، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فخلف لا يتغدى ، أو حلف لا يخرج عبده ولا زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك . وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق انتهى كلام الزركشي ، وهو موافق لما قاله في القواعد وغيره ، وكل منهما زاد في النقول على الآخر من جهة من اختار في المسألة . وملخصه أن القاضي وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي الفتح الحلواني والآمدي وغيرهم قالوا : الاعتبار بعموم اللفظ ، وهو المنصوص ، وقدمه في الرعايتين والحاوي ، وهو ظاهر ما جزم به الناظم ، وأن ابن عقيل في عمد الأدلة والشيخ الموفق والشارح وصاحب البلغة والشيخ تقي الدين ، والقاضي في موضع في المجرد ، واختاره ابن رجب ، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره ، قالوا : الاعتبار بخصوص السبب ، وهو الصواب ، وأن المجد ومن تبعه فرقوا ، وأشار إليه القاضي في التعليق ، كما نقله الزركشي . وإن كان المجد لحظ ما قاله حفيده فيكون قد وافق الموفق ، والله أعلم .

                                                                                                          ( مسألة 4 - 6 ) قوله : وإن انحلت بعزله في أحد الوجهين لم يبر برفعه المنكر بعد عزله ، وفي حنثه ، بعزله أوجه ، الثالث : يحنث إن أمكنه في ولايته ، انتهى .

                                                                                                          ذكر مسألتين :

                                                                                                          ( المسألة الأولى 4 ) هل تنحل يمينه بعزل الوالي أم لا ؟ ظاهر كلام المصنف إطلاق الخلاف ، وأطلقه في المقنع والشرح وشرح ابن منجى وغيرهم :

                                                                                                          ( أحدهما ) تنحل يمينه ، صححه في التصحيح ، وهو ظاهر كلامه في الوجيز ، وظاهر ما اختاره الشيخ الموفق وغيره أو لا ، وهو الصواب .

                                                                                                          ( الوجه الثاني ) لا تنحل يمينه ، قال القاضي : قياس المذهب لا تنحل ، وهما مبنيان على القاعدة المتقدمة ، صرح به في القواعد والمغني وغيرهما .

                                                                                                          وقال في الترغيب : إن كان السبب أو القرائن تقتضي حالة الولاية اختص بها ، وإن كانت تقتضي الرفع إليه بعينه [ ص: 363 ] مثل أن يكون مرتكب المنكر قرابة الوالي مثلا وقصد إعلامه بذلك لأجل قرابته وذكر الولاية تعريفا تناول اليمين حال الولاية والعزل .

                                                                                                          ( المسألة الثانية 5 ) إذا قلنا تنحل يمينه ورأى المنكر في ولايته ولم يرفعه حتى عزل فهل يحنث أم لا ؟ أو يحنث إن أمكنه ؟ أطلق ثلاثة أوجه ، وفيه مسألتان :

                                                                                                          ( إحداهما ) : إذا أمكنه رفعه ولم يرفعه ، وفيها وجهان ، وأطلقهما في المغني والشرح والمصنف :

                                                                                                          ( أحدهما ) يحنث بعزله ، وهو أولى :

                                                                                                          ( والوجه الثاني ) لا يحنث .

                                                                                                          ( والثالثة 6 ) إذا لم يمكنه رفعه حتى عزل أو مات فهل يحنث أم لا ؟ أطلق الخلاف .

                                                                                                          ( أحدهما ) يحنث ، قدمه في المغني والشرح .

                                                                                                          ( والوجه الثاني ) لا يحنث ، ( قلت ) وهو الصواب ، وأطلق الخلاف في الترغيب .

                                                                                                          ( مسألة 7 - 9 ) قوله : " وإن لم تنحل بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر ، وإن لم يعين الوالي إذن ففي تعيينه وجهان في الترغيب ، للتردد بين تعيين العهد والجنس ، وفيه ، لو علم به بعد علمه فقيل : فات البر ، كما لو رآه معه ، وقيل : لا ، لإمكان صورة الرفع ، فعلى الأول : هو كإبرائه من دين بعد حلفه ليقضينه ، وفيه وجهان " ، انتهى .

                                                                                                          فيه مسائل من الترغيب أطلق فيها الخلاف ، واقتصر عليه ، وأطلقهما في القواعد الأصولية .

                                                                                                          ( المسألة الأولى 7 ) إذا لم يعين الوالي فهل يتعين ويكون من كان في زمن حلفه أو لا يتعين ؟ أطلق الخلاف [ ص: 364 ]

                                                                                                          ( أحدهما ) : لا يتعين ( قلت ) : وهو الصواب ، حيث لم يكن نية ولا سبب ، فيكون للجنس ، فيشمل كل وال يولى .

                                                                                                          ( والوجه الثاني ) يتعين ، وهو من كان اليمين في زمنه ، فيكون للعهد ، وظاهر الحال يقتضي ذلك .

                                                                                                          ( المسألة الثانية 8 ) : لو علم به بعد علمه ، أي بعد علم الوالي ، صرح به في القواعد ، وهو واضح ، فهل فات البر ؟ كما لو رآه معه أو لا ، لإمكان صورة الرفع ، أطلق الخلاف ، وكذا قال في القواعد ، وهذا لفظ صاحب الترغيب فنقلاه .

                                                                                                          ( قلت ) : هي شبيهة بما إذا لم يمكنه رفعه إليه إلا بعد عزله ، على ما تقدم ، والصواب أن البر قد فات ، وهو الظاهر من حال الحالف .

                                                                                                          ( المسألة الثالثة 9 ) على القول بأن البر قد فات ، قال : هو كإبرائه من دين بعد حلفه ليقضينه ، وفيه وجهان ، وأطلقهما المصنف في أواخر هذا الباب ، والصحيح أنه لا يحنث ، صححه في التصحيح ، وجزم به في الوجيز ومنتخب الآدمي ومنوره ، وتذكرة ابن عبدوس ، وغيرهم ، وقدمه في المحرر والنظم ، فكذا الصحيح هنا أنه لا يحنث ، ويأتي ذلك عند كلام المصنف فيها محررا إن شاء الله تعالى في المسألة الحادية والأربعين .




                                                                                                          الخدمات العلمية