الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (21) قوله : أم حسب : " أم " منقطعة ، فتقدر بـ بل والهمزة ، أو بـ بل وحدها ، أو بالهمزة وحدها . وتقدم تحقيق هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : كالذين آمنوا : هو المفعول الثاني للجعل أي : أن نجعلهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يحسبون ذلك ، وقد تقدم في سورة الحج : أن الأخوين وحفصا قرؤوا هنا " سواء " بالنصب ، والباقون [ ص: 648 ] بالرفع ، ووعدت بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تنتصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما : " كالذين آمنوا " ، ويكون المفعول الثاني للجعل " كالذين آمنوا " أي : أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك . الثاني : أن يكون " سواء " هو المفعول الثاني للجعل ، و " كالذين " في محل نصب على الحال أي : لن نجعلهم حال كونهم مثلهم سواء ، وليس معناه بذاك . الثالث : أن يكون " سواء " مفعولا ثانيا لـ " حسب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الوجه نحا إليه أبو البقاء ، وأظنه غلطا لما سيظهر لك فإنه قال : " ويقرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حال من الضمير في الكاف أي : نجعلهم مثل المؤمنين في هذه الحال . والثاني : أن يكون مفعولا ثانيا لـ " حسب " والكاف حال ، وقد دخل استواء محياهم ومماتهم في الحسبان ، وعلى هذا الوجه محياهم ومماتهم مرفوعان بـ " سواء " ، لأنه قد قوي باعتماده " انتهى . فقد صرح بأنه مفعول ثان للحسبان . وهذا لا يصح البتة ; لأن " حسب " وأخواتها إذا وقع بعدها " أن " المشددة أو " أن " المخففة أو الناصبة سدت مسد المفعولين ، وهنا قد وقع بعد الحسبان " أن " الناصبة فهي سادة مسد المفعولين ، فمن أين يكون " سواء " مفعولا ثانيا لـ حسب ؟

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : هذا الذي قلته رأي الجمهور سيبويه وغيره ، وأما غيرهم كالأخفش فيدعي أنها تسد مسد واحد . إذا تقرر هذا فقد يجوز أن أبا البقاء ذهب هذا المذهب ، فأعرب " أن نجعلهم " مفعولا أول و " سواء " مفعولا ثانيا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 649 ] فالجواب : أن الأخفش صرح بأن المفعول الثاني حينئذ يكون محذوفا . ولئن سلمنا أنه لا يحذف امتنع من وجه آخر : وهو أنه قد رفع به " محياهم ومماتهم " لأنه بمعنى مستو كما تقدم ، ولا ضمير يرجع من مرفوعه إلى المفعول الأول ، بل رفع أجنبيا من المفعول الأول . وهو نظير : " حسبت قيامك مستويا ذهابك وعدمه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قرأ بالرفع فتحتمل قراءته وجهين ، أحدهما : أن يكون " سواء " خبرا مقدما . و " محياهم " مبتدأ مؤخرا ويكون " سواء " مبتدأ و " محياهم " خبره .

                                                                                                                                                                                                                                      كذا أعربوه . وفيه نظر تقدم في سورة الحج وهو : أنه نكرة لا مسوغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفة ونكرة جعلت النكرة خبرا لا مبتدأ . ثم في هذه الجملة ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها استئنافية . والثاني : أنها بدل من الكاف الواقعة مفعولا ثانيا . قال الزمخشري : " لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، كان سديدا ، كما تقول : ظننت زيدا أبوه منطلق " . قال الشيخ : " وهذا - أعني إبدال الجملة من المفرد - أجازه ابن جني وابن مالك ، ومنعه [ ص: 650 ] ابن العلج " ، ثم ذكر عنه كلاما كثيرا في تقرير ذلك ثم قال : " والذي يظهر أنه لا يجوز " ، يعني ما جوزه الزمخشري قال : " لأنها بمعنى التصيير ولا يجوز : " صيرت زيدا أبوه قائم " لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول " صيرت " المقدرة مفعولا ثانيا ليس فيها انتقال مما ذكرنا فلا يجوز " . قلت : ولقائل أن يقول : بل فيها انتقال من وصف في الذات إلى وصف فيها ; لأن النحاة نصوا على جواز وقوع الجملة صفة وحالا نحو : مررت برجل أبوه قائم ، وجاء زيد أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفية والحالية يجوز أن يقع في حيز التصيير ; إذ لا فرق بين صفة وصفة من هذه الحيثية .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن تكون الجملة حالا ، التقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ، ليسوا كذلك بل هم مفترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخ . وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة داخلة في حيز الحسبان . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : " يقتضي هذا الكلام أن لفظ الآية خبر ، ويظهر أن قوله : سواء محياهم ومماتهم داخل في المحسبة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن والأول جيد " انتهى . ولم يبين كيفية دخوله في الحسبان ، وكيفية أحد الوجهين الأخيرين : إما البدل وإما الحالية كما عرفته .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش " سواء " نصبا " محياهم ومماتهم " بالنصب أيضا . فأما " سواء " فمفعول ثان أو حال كما تقدم . وأما نصب " محياهم ومماتهم " ففيه وجهان ، أحدهما : أن يكونا ظرفي زمان ، وانتصبا على البدل من مفعول [ ص: 651 ] " نجعلهم " بدل اشتمال ، ويكون " سواء " على هذا هو المفعول الثاني . والتقدير : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء . والثاني : أن ينتصبا على الظرف الزماني . والعامل : إما الجعل أو سواء . والتقدير : أن نجعلهم في هذين الوقتين سواء ، أو نجعلهم مستوين في هذين الوقتين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري مقدرا لهذا الوجه : " ومن قرأ بالنصب جعل " محياهم ومماتهم " ظرفين كمقدم الحاج وخفوق النجم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " وتمثيله بخفوق النجم ليس بجيد ; لأن " خفوق " مصدر ليس على مفعل فهو في الحقيقة على حذف مضاف أي : وقت خفوق بخلاف محيا وممات ومقدم فإنها موضوعة على الاشتراك بين ثلاثة معان : المصدرية والزمانية والمكانية . فإذا استعملت مصدرا كان ذلك بطريق الوضع لا على حذف مضاف كخفوق ; فإنه لا بد من حذف مضاف لكونه موضوعا للمصدرية " . وهذا أمر قريب لأنه إنما أراد أنه وقع هذا اللفظ مرادا به الزمان . أما كونه بطريق الأصالة أو الفرعية فلا يضر ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في " محياهم ومماتهم " يجوز أن يعود على القبيلين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء عند الله في الكرامة ، ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في الإهانة عنده ، فلف الكلام اتكالا على ذهن السامع وفهمه . ويجوز أن يعود على المجترحين فقط . أخبر أن حالهم في الزمانين سواء .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو البقاء : " ويقرأ " مماتهم " بالنصب أي : في محياهم ومماتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 652 ] والعامل " نجعل " أو سواء . وقيل : هو ظرف " . قلت : قوله : " وقيل " هو القول الأول بعينه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ساء ما يحكمون قد تقدم إعرابه . وقال ابن عطية هنا : " ما " مصدرية أي : ساء الحكم حكمهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية