[ ص: 358 ] قوله: يحتمل أن يكون ذلك من صفات الرائي، كما يقال: دخلت على الأمير في أحسن هيئة، أي: وأنا كنت على أحسن هيئة، فهذا باطل لوجوه:
أحدها: أن لفظه في أتم طرقه: فقوله: «إني قمت من الليل فتوضأت، وصليت ما قدر لي، فنعست في مصلاي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى» صريح في أن الذي كان في أحسن صورة هو ربه. «فإذا أنا بربي في أحسن صورة»
الوجه الثاني: أن في اللفظ الآخر: «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة».
الوجه الثالث: أن النائم إذا أخبر بأنه رأى غيره في أحسن صورة لم يكن مقصوده الإخبار بصورة نفسه.
الرابع: أن قول القائل: رأيت فلانا في أحسن صورة. إنما يتعلق الطرف فيه بالمرئي لا بالرائي، كما لو قال: رأيت فلانا [ ص: 359 ] راكبا أو قاعدا أو في حال حسنة، ونحو ذلك، أو: في أحسن صورة؛ لأن من لغتهم أن ما يصلح للفاعل والمفعول لا يجوز فيه ترك الترتيب، إلا إذا أمن اللبس، فلا يقولون: ضرب موسى عيسى إلا إذا كان الأول هو الضارب، ويقول: أكل الكمثرى موسى، يقدمون المفعول لظهور المعنى بالرتبة، فقول القائل: في أحسن صورة، وفي حال حسنة، ونحو ذلك، لا يجوز تعليقه إلا بما هو الأقرب إليه، فإذا كان المفعول هو المتأخر وهو الأقرب إليه تعلق به، وإذا أريد تعليقه بالفاعل أخر أو أعيد ذكره، مثل أن يقال: جئته وأنا في أحسن صورة، أو لم يأت الأمير إلا وأنا في أحسن صورة، ونحو ذلك، وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول القائل: دخلت على الأمير في أحسن هيئة، فإن دخوله على الأمير يشعر بأنه كان هو المتحول المتنقل، والأمير يتجمل للقائه، ألا ترى أنه لو قال: رأيت الأمير في أحسن هيئة، أو في أحسن صورة، لم يكن المفهوم منه إلا أن الأمير هو الذي في أحسن هيئة وأحسن صورة، فيعطى كل لفظ تركيبه وحقه، لا يقاس هذا بهذا مع اختلاف تعيينها.
الخامس: أن قوله في الوجه الأول: يكون المعنى أن الله زين خلقه، وجمل صورته عندما رأى ربه.
[ ص: 360 ] يقال له: مما عده العلماء وأصبح كبائت لم يتغير، كما حصل من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السماء، ثم رجع، لموسى عليه السلام حين كلمه الله فإنه كان يتبرقع.
وكذلك لما خرج عليهم إلى صلاة الفجر بالمدينة وأخبرهم بما رأى لم ينقل أحد أنه تغيرت صورته حتى صارت أحسن الصور، أكثر ما في بعض الطرق أنه خرج وهو طيب النفس، مشرق اللون، ومعلوم أن هذا ليس بأحسن الصور.
السادس أن تلك الزيادة في صورته إن قيل: بقيت عليه فهذا كذب ظاهر، فإن صورته لم تختلف اختلافا خارجا عن العادة، وإن قيل: كانت حين الرؤية وزالت بزوالها فمن المعلوم أن الذي يزاد إكرامه بتزيين صورته إن لم يره العباد في الصورة الحسنة المجملة، وإلا فهو في نفسه لا يحصل له [ ص: 361 ] انتفاع بمجرد جمال صورته الذي لا يراه أحد، فأي إكرام في هذا؟!!