قلت: فقد ذكر «أبو محمد بن كلاب» أنه لم يخالف الجماعة في ذلك إلا نفر قليل، يدعون أنهم أفضل الناس وعدد قليل معه، وذكر أن العلم بأن «جهم» الله فوق فطري، مغروز في فطر العباد، اتفق عليه عامتهم وخاصتهم.
قال عقب هذا: «واعلم أن هذا ليس بمخالف لما قال في كتاب التوحيد، لأنه ليس يقول: إنه في السماء إلا اتباعا للفظ الكتاب، في قوله عز وجل: «أبو بكر بن فورك» أأمنتم من في السماء [الملك: 16] على معنى أنه فوقها، ورد ذلك إلى قوله تعالى: الرحمن على العرش استوى [طه: 5] فمن توهم عليه أنه يقول: إن الله في مكان دون مكان، أو في كل مكان فقد أخطأ في توهمه».
فقلت: أما قول إنه إنما قال ذلك، اتباعا للسمع الوارد من لفظ الكتاب، فليس كذلك، لأنه قرر أولا ذلك [ ص: 92 ] بالسنة، ثم قال: «والكتاب ناطق به، وشاهد له» ثم قال: «ولو لم يشهد لصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غرس في بنية الفطرة، وتعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدا من الناس، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول: أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح، أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إن لم يفصح، لا يشير إلى غير ذلك، من أرض ولا سهل ولا جبل، ولا رأينا أحدا، داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء» فقد ذكر أنه مغروز في فطر الناس كلهم ومعارفهم في هذا الباب ما لا أبين منه ولا أوكد، وهو اتفاق الخلائق كلهم، إذا سئلوا أين الله؟ قالوا: في السماء، بالعبارة عنه، أو الإشارة إليه، وكذلك هم متفقون على الإشارة باليدين، في دعائه إلى السماء، وهذا الإخبار منه بأن القول بأنه في السماء، والإشارة إليه سبحانه في الدعاء وغير الدعاء، أمر متفق فيه بين الناس، وأن ذلك عندهم من المعارف الفطرية الغريزية، فكيف يقال: قولهم إنه في السماء ليس إلا لمجرد اتباع لفظ القرآن؟ وقد ذكر «ابن فورك» أن مقام هذا دل على ثلاثة أمور: «ابن فورك»
أحدها: إجازة القول بأين الله في السؤال عنه.
والثاني: أنه دل على صحته الجواب عنه، بأن يقال: إنه في [ ص: 93 ] السماء.
والثالث: أن ذلك يرجع فيه إلى الإجماع من الخاصة والعامة. فكيف يقول بعد هذا منصف يظن أنه يقول إنه في السماء إلا اتباعا للفظ الكتاب؟ وقد ذكر أن هذا إجماع من المؤمنين والكفار والعرب والعجم، فهل ما يكون بهذه المنزلة لا يقال إلا لمجرد التوفيق على لفظه؟ وقد ذكر من كلامه في غير هذا الموضع، ما يبين أنه كونه فوق العالم صفة معلومة بالعقل، لا تتوقف على السمع، وإنما المعلوم بالسمع استواؤه على العرش. «ابن فورك»
قال «ابن فورك»: «فصل آخر في بيان تحقيق قوله: إن إطلاق وصفه سبحانه وتعالى بأنه فوق واجب، من كلام ذكره في كتاب «الصفات» في باب الاستواء على العرش: «قال: قد قلنا ونقول إنه عز وجل فوق كل شيء لم يكن بين طبقين» قال «وقال في هذا الباب، من هذا الكتاب، عند تفسير الاستواء: «إن الاستواء هو العلو، وإنما سمي العلو استواء، لعلة المستوى عليه، إذ لم يكن فوقه شيء، فقوله: استوى على العرش; هو أن الله -سبحانه وتعالى- قد كان ولا شيء غيره، ثم خلق العرش فجعله أعلى خلقه، فقيل: هو مستو عليه، لما كان عاليا عليه، لم يكن بين طبقتين، فيكون فوقه شيء، وليس هو مماس للعرش» قال «ابن فورك»: «فبين هذا من قوله، إنه [ ص: 94 ] يطلق الاستواء للخبر الوارد، والقول: بأنه فوق لنفي كونه بين طبقتين، لا معنى القهر والاقتدار، خلافا لقول من يزعم من المخالفين; إنه فوق بمعنى: القهر والغلبة والقدرة والعزة والعظمة فحسب». «ابن فورك»: