وإذا كانت هذه الحجة تستلزم هذا الكفر فهي تستلزم أيضا [ ص: 128 ] نقيض المطلوب؛ لأن المقصود بنفي وحدة الجسم إثبات تركيبه من الأجزاء المفردة، التي كل منها واحدا، فإذا نفيت وحدة الجوهر الفرد استلزمت إبطاله، وإذا بطل الجوهر الفرد امتنع كون الجسم مركبا من الجواهر المنفردة، فيلزم أن يكون واحدا فصارت هذه الحجة المذكورة لنفي وحدة الجسم مستلزمة لوحدته ونافية لوحدة الجوهر الفرد أيضا، وكل هذا تناقض واعجب من هذا!.
ثم من العجب ثم قلت: " وبتقدير إمكانه فلا بد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى". وإذا كانت الوحدة مستلزمة للتسلسل المحال فكيف يكون تقدير إمكانه مبينا لك جواز اتصاف شيء بالوحدة من غير توسط وحدة أخرى. قولك بعد أن ثبت أن الوحدة تستلزم التسلسل، وهو محال.
وكذلك من العجب قولك: " فلا بد وأن ينتهي إلى وحدة تقوم بالذات لا بتوسط وحدة أخرى، وإلا لم تكن الذات موصوفة بالوحدة وهو المطلوب". فليس هذا هو المطلوب. لأن هذا الذي قدرته مع قولك إنه محال يفيد أن الذات توصف بالوحدة من غير أن تتوقف هذه الوحدة على وحدة أخرى للذات، وهذا لم ينازعك فيه أحد ولا ينفي وحدة الجسم، فإن [ ص: 129 ] وحدة الجسم ليست موقوفة على وحدة أخرى تقوم بالجسم. غاية ما في هذا الباب أن وحدة الجسم معها وحدات أخر تقوم بالجوهر إذا أفردت. وهذه الوحدة ليست شرطا في ثبوت الأولى، ولا هي سابقة عليها، ولا تلك متوقفة عليها ولا هي وحدة الجسم التي وصفت بها الأولى. والتسلسل الذي ذكرته إنما يمنع أن تكون وحدة الشيء متوقفة على وحدة أخرى لذلك الشيء، وليس الأمر كذلك هنا، لكن مع وحدة الجسم وحدة كل موصوف بالوحدة من الأجسام والجواهر وغير ذلك، والموصوف بأنه واحد إذا كان مستلزما إمكان أن ينقسم إلى ما يوصف بأنه واحد لم يكن وحدة موقوفة على وحدة أخرى تقوم به، فليتدبر اللبيب كيف ذكر الحجة التي مضمونها نفي كل وحدة في العالم وإحالتها، ثم أخذ ثبوت الوحدة مسلما، وادعى أن ثبوت الوحدة بلا واسطة ينفي وحدة الجسم، وكلاهما عجب: نفي الوحدة مطلقا، ودعوى أن الوحدة بلا واسطة وحدة أخرى تنفي وحدة الجسم.
ثم يقال عن هذه الشبهة الفاسدة الباردة تعين الواحد جسما كان أو غيره، وتميزه عن غيره لا يخلو: إما أن تكون هي وحدته، أو لا تكون. فإن لم يكن هو وحدة الجسم بطل قولك: لا نعقل من وحدته إلا تعينه في نفسه وتميزه عن غيره، فبطلت الحجة. وإن كان هو وحدته بطل قولك: لا تحصل فيه [ ص: 130 ] الوحدة إلا إذا كان متعينا متميزا عن غيره تعني قبل ذلك. وحينئذ فقد بطلت الحجة أيضا، فسواء كانت الوحدة هي التعين والتميز أو كانت غيره لم يلزم أن يكون قيام الوحدة بالجسم متوقفا على وحدة أخرى، وهذا ظاهر. وسواء كانت الوحدة أمرا وجوديا أو عدميا فليس المقصود هنا بسط الكلام على هذا.
وإنما الغرض من التنبيه على أن ما يستدل به على أن الجسم فيه انقسام وتركيب وكثرة، وأنه ليس بواحد من أفسد الحجج، فإنه قد بنى على هذا الأصل الفاسد كثيرا من تجهمه وتعطيله الذي جحد فيه حقيقة أسماء الله وصفاته، وما هو عليه في ذاته.
أما كون الجسم قابلا للانقسامات التي لا تتناهى أو غير قابل فهذا ليس لنا فيه هنا غرض، وهو احتج على نفي ذلك بالحركة وأنها موجودة في الحاضر، وإلا لم تكن موجودة في [ ص: 131 ] الماضي والمستقبل، وأن وجودها الحاضر لا ينقسم وإلا لكان الحاضر ماضيا ومستقبلا، وإذا لم تنقسم الحركة إلى غير نهاية لم تنقسم المسافة التي تكون الحركة عليها، فلا يكون في الجسم الذي هو مسافة انقسام لا يتناهى.