الوجه الثامن والعشرون: أن ثم جمهورهم يقول ما يقوله السلف، من نفي المعرفة بالكيفية، ويقولون: لا تجري ماهيته في مقال، ولا تخطر كيفيته بمثال. ومنهم من يقول: كما يقوله طوائف، من النفاة المعتزلة وغيرهم: إنه لا ماهية له فتجري في مقال، ولا كيفية له فتخطر ببال، فلا يحيط أحد من المخلوقين على حقيقة ذاته، ولا يبلغ قدره غيره، كما في الدعاء المأثور: «يا من لا يعلم ما هو إلا هو» بل قد قال في الجنة: القوم مع سائر أهل السنة، يقولون: إن حقيقة البارئ غير معلومة للبشر; ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف، من نفي المعرفة بماهيته وكيفية [ ص: 308 ] صفاته; وتصديق ذلك في كتابه، حيث قال: [ ص: 309 ] «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعكم عليه» فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [السجدة: 17] فهم لا يحيطون علما بكنه عامة المخلوقات، فكيف يحيطون علما بكنه الخالق تعالى، وقد قال تعالى: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء: 85] وفي الصحيح عن عن ابن عباس، أبي بن كعب، فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [الكهف: 65] قال لموسى الذي كلمه الله تكليما: «ما نقص علمي وعلمك، من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» لما ركب في السفينة، وقد وقف عليها عصفور فنقر في البحر نقرة، وفي صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الخضر الذي قال الله عنه: عن مسلم، عائشة، فإذا كان أعلم الخلق بربه، لا يحصي ثناء عليه، فكيف بمن هو دونه بدرجات لا يحصيها إلا الله. عن [ ص: 310 ] النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول في سجوده، وروي أنه كان يقوله في قنوته، أيضا: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»
وإن كان هذا الذي يقولونه، ويثبتونه بالأدلة الشرعية والعقلية، لم تذكر أنت عليها حجة، ولا نقلت فيها مذهبا: فقولك: «لا بد من الاعتراف بأن خصوصية ذاته، التي بها امتازت عن سائر الذوات، مما لا يصل الوهم والخيال إلى كنهها» تقصير وتفريط، فإنه لا يصل إلى كنهها لا علم ولا عقل، ولا معرفة [ ص: 311 ] ولا حس، ولا وهم ولا خيال، ولا نوع من أنواع الإدراكات، فتخصيص الوهم والخيال بذلك، يشعر بأن الوهم والخيال يصل إلى كنهها، وأنهم يفرقون بين هذا وهذا، وأنه يجب التفريق بين وصول الوهم والخيال إلى كنهها، وبين وصول العلم والعقل، وكل هذا غلط.