وهذه الحجة التي ذكرها مبناها على أنه [لا] لا يخلو عن المباينة للخلق والمحايثة لهم، وهذا كما أنه معلوم بالفطرة العقلية الضرورية كما تقدم؛ فإن الإمام أحمد الجهمية كثيرا ما يضطرون إلى تسليم ذلك ولأن الخروج عن هذين القسمين مما تنكره قلوبهم بفطرتهم، ومما ينكره الناس عليهم.
[ ص: 116 ] وإذا كان كذلك: بنى الحجة على [أن] الله تعالى كان وحده متميزا عن الخلق، وهذه مخاطبة للمسلمين وسائر أهل الملل الذين يقرون بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأنها محدثة بعد أن لم تكن. فالإمام أحمد فإن الأمر إذا كان كذلك فمن أثبت محايثته للخلق، أثبت محايثة بعد أن لم تكن محايثة؛ بخلاف ما لو لم يقر بذلك، فإنه لا يثبت انفراده ومباينته أصلا، وهذا لا ريب أنه أعظم كفرا وجحودا للخالق كما تفعله الاتحادية من هؤلاء؛ فإن هؤلاء كثيرا إما أن يكونوا متفلسفة؛ لكن المتفلسفة الضالون يقولون بقدم العالم: إما معلولا عن علة واجبة، كما يقوله أرسطو وذووه، وإما غير معلول كما يقوله غيرهم، وهؤلاء ضموا إلى ذلك أنه هو العالم أو في العالم. وأولئك الجهمية الذين ناظرهم وأمثاله كانوا أقرب إلى العقل والدين؛ فإنهم لم يكونوا يقولون إنه عين الموجودات، ولا يقولون إنه لم يزل محايثا لها، ولا كانوا يظهرون أنه ليس بمباين للعالم ولا محايث له؛ بل يقولون بنفي الاختصاص بالعرش بقولهم إنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان. وإذا كان وحده ثم خلق الخلق، فإما أن يقولوا: إنه محل للخلق، أو يقولوا: إنه حل في الخلق، أو [ ص: 117 ] يقولوا: إنه ليس بحال ولا محل. فهذه القسمة حاصرة كما ذكره الإمام أحمد أنه لابد من قول من هذه الأقوال الثلاثة؛ فإن جعلوه / محلا للمخلوقات فقد جعلوا إبليس والشيطان والنجاسات مما يبعد عن الله ملعونا مطرودا جعلوه في جوف الله، وذلك كفر. وإن جعلوه حالا فيها فقد جعلوه حالا في كل مكان يتنزه عن مقاربته وملاصقته والقرب منه، وذلك أيضا كفر كما تقدم. أحمد
وفرق في كونه محلا وكونه حالا بين الخبيث الحي، وبين الخبيث الموات الجامد. فذكر في القسم الأول الخبيث الحي وهم الشياطين، وفي الثاني الخبيث الجامد وهو النجس الرديء؛ لأنه في هذا القسم يكون التقدير أن المخلوق أمكنة له ومحل، والمكان المحل من شأنه أن لا يكون من الحيوانات، فألزمهم المكان من الأجسام النجسة الخبيثة القذرة. الإمام أحمد
وفي القسم الأول ذكر أنه هو المحل والمكان، فذكر المتمكن في المكان الحال فيه، والعادة أن الحيوانات تكون في الأمكنة؛ فالحيوان يتحرك في المكان وإليه، ليس المكان هو يتحرك إلى الحيوان ويجيء إليه. وإذا انتفى هذان القسمان [ ص: 118 ] بقي القسم الثالث وهو أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، وهو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، وعموم الخلائق من كل ذي فطرة سليمة.
ثم قال "بيان ما ذكر الله في القرآن الإمام أحمد: وهو معكم وهذا على وجوه: قول الله تعالى لموسى: إنني معكما أسمع وأرى [طه: 46] يقول في الدفع عنكما. وقال تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40] يعني في الدفع عنا. وقال: والله مع الصابرين [البقرة: 249] يعني في النصرة لهم على عدوهم. وقوله: وأنتم الأعلون والله معكم [محمد: 35] في النصرة لكم على عدوكم. وقال سبحانه وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول [النساء: 108] يقول بعلمه فيهم. وقوله: كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء: 62] يقول في [ ص: 119 ] العون على فرعون.
قال: "فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله عز وجل أنه مع خلقه قال: هو في كل شيء غير مماس للشيء، ولا مباين منه. فقلنا: إذا كان غير مباين أليس هو مماس؟ فلم يحسن الجواب، فقال: بلا كيف! فخدع الجهال بهذه الكلمة، موه عليهم. فقلنا له: إذا كان يوم القيامة أليس إنما هو الجنة والنار والعرش والهواء؟ قال: بلى. قلنا: فأين يكون ربنا؟ قال: يكون في كل شيء، كما كان حيث كانت الدنيا. فقلنا: فإن مذهبكم أن ما كان من الله على العرش فهو في العرش، وما كان من الله في الجنة فهو في الجنة، وما كان من الله في النار فهو في النار، وما كان من الله في الهواء فهو في الهواء. فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله عز وجل.
[ ص: 120 ]