ثم ذكر حجة أخرى عقلية قياسية قال: أحمد "وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس مكانه مكان، ومكان الشياطين مكانهم مكان؛ فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد".
[ ص: 103 ] وهذا التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الأحياء نظير التنزيه عن مجامعة الخبيث النجس من الجمادات؛ ولهذا ونحو ذلك وإن كان المكان ليس فيه من النجاسات الجامدة شيء، بل أرواث الإبل طاهرة؛ بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم / في الصحيح من غير وجه، أنه ذكر أن نهي عن الصلاة في المواطن التي تسكنها الشياطين كالحمام والحش وأعطان الإبل وخصه في الحديث الصحيح بالأسود، وقال إنه شيطان. لما سئل عن الفرق بين الأحمر والأبيض والأسود فقال: الكلب [ ص: 104 ] يقطع الصلاة، وفي الصحيح عنه أنه قال: "الأسود شيطان". ولهذا "إن الشيطان تفلت علي البارحة، فأراد أن يقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته فذعته" وقال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة المار بين يدي المصلي، فأما "إن معه القرين". إنه يذهب بنصف أجر الصلاة. وأما شيطان الجن فقد قال طائفة من الفقهاء من أصحاب ابن مسعود: وغيرهم: إنه يقطع الصلاة إذا علم ذلك، كما يقطعها الكلب الأسود البهيم الذي هو شيطان الدواب. أحمد مرور [ ص: 105 ] الإنسي، فقد قال
[ ص: 106 ] وأيضا فالشيطان ملعون رجيم كما قال تعالى: وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله [النساء 117، 118] وقد أخبر سبحانه وتعالى أن فقال تعالى: الشياطين ترجم بالشهب لئلا تسترق السمع من الملائكة، إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [الصافات: 6 - 10].
وقد أمر الله عباده بالاستعاذة من الشيطان فقد قال لكبيرهم في السماء: اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [الأعراف: 18] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض عباد الله وهو عمر بن الخطاب: وقد أخبر الله في كتابه عن هرب الشيطان من [ ص: 107 ] الملائكة حيث قال: "ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك" وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب [الأنفال: 48] فإذا كان ملعونا مبعدا مطرودا عن أن يجتمع بملائكة الله، أو يسمع منهم ما يتكلمون به من الوحي، فمن المعلوم أن بعده عن الله أعظم، وتنزه الله وتقديسه عن قرب الشياطين [أولى]. فإذا كان كثير من الأمكنة مملوءا. وكان تعالى في كل مكان، كان الشياطين قريبين منه غير مبعدين عنه ولا مطرودين؛ بل كانوا متمكنين من سمع كلامه منه -دع الملائكة- وهذا مما يعلم بالاضطرار وجوب تنزه الله وتقديسه عنه: أعظم من تنزيه الملائكة والأنبياء والصالحين، وكلامه الذي يبلغه هؤلاء ومواضع عباداته، فإن نفسه أحق بالتنزيه والتقديس من جميع هذه الأعيان [ ص: 108 ] المخلوقة، ومن كلامه الذي يتلوه هؤلاء.
ثم أجاب عن حجتهم. فقال: "وأما الإمام أحمد وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط بعلمه ما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان؛ ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، / وكذلك قوله تعالى: معنى قوله تبارك وتعالى: لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [الطلاق: 12].
ثم ذكر حجة اعتبارية عقلية قياسية لإمكان ذلك هي من "باب الأولى" قال: "ومن الاعتبار في ذلك: لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير صاف وفيه شيء كان بصر ابن الإمام أحمد آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه له المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه [ ص: 109 ] من غير أن يكون في شيء من خلقه".
قلت: وقد تقدم أن كل ما يثبت من صفات الكمال للخلق، فالخالق أحق به وأولى. فضرب رحمه الله مثلا، وذكر قياسا، وهو أن العبد إذا أمكنه أن يحيط بصره بما في يده وقبضته من غير أن يكون داخلا فيه ولا محايثا له، فالله سبحانه أولى باستحقاق ذلك واتصافه به، وأحق بأن لا يكون ذلك ممتنعا في حقه. وذكر أحمد في ضمن هذا القياس لقول الله تعالى: أحمد وله المثل الأعلى مطابق لما ذكرناه من أن الله له قياس الأولى والأحرى بالمثل الأعلى؛ إذ القياس الأولى والأحرى هو من المثل الأعلى. وأما المثل المساوي أو الناقص فليس لله بحال.
ففي هذا الكلام الذي ذكره، واستدلاله بهذه الآية تحقيق لما قدمناه من أن الأقيسة في باب صفات الله، وهي أقيسة الأولى كما ذكره من هذا القياس؛ فإن العبد إذا كان هذا الكمال ثابتا له، فالله الذي له المثل الأعلى أحق بذلك.
ثم ذكر قياسا آخر فقال: "وخصلة أخرى لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها، وخرج منها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله سبحانه له المثل الأعلى، قد [ ص: 110 ] أحاط بجميع ما خلق وقد علم كيف هو، وما هو من غير أن يكون في جوف شيء مما خلق".
وهذا أيضا قياس عقلي من قياس الأولى، قرر به إمكان العلم بدون المخالطة، فذكر أن العبد إذا فعل مصنوعا كدار بناها فإنه يعلم مقدارها، وعدد بيوتها، مع كونه ليس هو فيها، لكونه هو بناها، فالله الذي خلق كل شيء أليس هو أحق بأن يعلم مخلوقاته ومقاديرها وصفاتها، وإن لم يكن فيها محايثا لها، وهذا من أبين الأدلة العقلية.
وهذان القياسان أحدهما: لإحاطته بخلقه، إذ الخلق جميعا في قبضته، وهو محيط بهم وببصره.
والثاني لعلمه بهم؛ لأنه هو الخالق، كما قال سبحانه: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14].
وهؤلاء الجهمية نفاة الصفات كثيرا ما يجمعون بين نفي علوه وكونه فوق العالم، وبين الريب في علمه؛ فإن كثيرا منهم مستريب في علمه، لا سيما من تفلسف منهم: فتارة يقولون: لا علم له. وتارة يقولون: لا يعلم إلا نفسه. وتارة [ ص: 111 ] يقولون: إنما يعلم غيره على وجه كلي. ولهم من الاضطراب في "مسألة العلم" ما هو نظير اضطرابهم في "علوه وفوقيته". وكان ما ذكره الله في كتابه وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الجمع بين هذين ردا لضلال هؤلاء في الأمرين، كما قال تعالى: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير [الحديد: 4] وهؤلاء جاحدون، أو مستريبون بأنه فوق العرش، وبأنه معنا أينما كنا. ومن هؤلاء طوائف موجودون وإن كان لهم من الفضيلة والذكاء ما تميزوا به على من لم يشركهم في ذلك، ولهم من السمعة والرياسة ما لهم، ففيهم من الجهل والنفاق هذا وغيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال "ومما تأول الإمام أحمد: الجهمية من قول الله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم الآية. قالوا: إن الله عز وجل معنا وفينا. فقلنا: لم قطعتم الخبر من أوله؟ إن الله يقول: ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم يعني أن الله [ ص: 112 ] بعلمه رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم يعني بعلمه فيهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [المجادلة: 7] يفتح الخبر بعلمه، ويختم الخبر بعلمه".